الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1354 (121) باب إنزال القرآن على سبعة أحرف

                                                                                              [ 691 ] عن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها ، فكدت أن أعجل عليه ، ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه ، فجئت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسله . اقرأ . فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هكذا أنزلت ، ثم قال لي : اقرأ . فقرأت فقال : هكذا أنزلت . إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه .

                                                                                              رواه أحمد (1 \ 40)، والبخاري (6936)، ومسلم (818) (270)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2944)، والنسائي (2 \ 150 و 152) .

                                                                                              [ ص: 447 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 447 ] (121) ومن باب : إنزال القرآن على سبعة أحرف

                                                                                              قوله : فلببته بردائه ; أي : جمعت ثوبه على حلقه ، وأصله من اللبة ، وهي الثغرة التي في أسفل الحلق ، وهذا من عمر - رضي الله عنه - غيرة على كتاب الله ، وقوة في دينه .

                                                                                              وقوله لعمر : أرسله ; أي : أطلقه ، لينفس عنه ، حتى يعرب عن نفسه .

                                                                                              وقوله لهشام : اقرأ ، ليسمع ما ادعى عليه إفساده ، ليتضح ذلك .

                                                                                              وقوله لعمر : اقرأ : لتجويز الغلط على عمر ، أو ليبين أن كل واحدة من القراءتين جائزة ، كما قد صوبه فيها بعد ذلك بقوله : هكذا أنزلت .

                                                                                              واختلف في قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف على خمسة وثلاثين قولا ; حكاها أبو حاتم بن حبان ، أولاها عند المحققين ، وأقربها بمساق الأحاديث : أن [ ص: 448 ] السبعة أحرف هي سبع لغات من لغات العرب . قال أبو عبيد : يمنها ، ومعدها ، وهي أفصح اللغات وأعلاها من كلامهم ، وقيل : بل هذه السبع لغات لمضر لا لغيرها . قالوا : وهذه اللغات متفرقة في القرآن ، لا يلزم اجتماعها في الكلمة الواحدة ، ولو اجتمعت لم يكن في ذلك بعد ، ويمكن أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعها من جبريل في عرضات سبع ، أو في واحدة ، ويوقفه على المواضع المختلف فيها . ثم لا يشترط أن يكون اختلاف هذه اللغات السبع في كيفيات الكلمات من : الإدغام ، والإظهار ، والمد ، والقصر ، والإمالة ، والفتح ، وما بين اللفظين ، والتغليظ ، والترقيق ، واختلاف الإعرابات فقط ، بل يجوز أن يكون في هذه كلها ، وفي ألفاظ مترادفة على معنى واحد ، كما قد روي أنه قرئ : انظرونا نقتبس من نوركم [ الحديد : 13] و "أخرونا" و "أنسئونا" ، وفي قوله : كلما أضاء لهم مشوا فيه [ البقرة : 20] و "مروا" و "سعوا" ، وفي قوله : فاسعوا إلى ذكر الله و "امضوا" ، وفي زيادة ألفاظ : فيزيد بعضهم كلمة ، وينقصها غيرهم ; كما في قوله : من تحتها [ مريم : 24 ] وأسقطها آخرون ، و : إن الله هو الغني الحميد [ لقمان : 26 ] و (أن الله الغني) بإسقاط هو . وهذا النحو من الاختلاف هو الذي كثر في خلافة عثمان ، حتى خاف أن يتبدل كثير من القرآن ، ويتغير ، ويختلف الناس ، فاتفق نظره ونظر الصحابة أجمعين على جمع الناس على مصحف واحد ، فكتبوه على لغة قريش ، وعلى حرق ما عداه من المصاحف المخالفة لذلك المصحف ، وهذا النحو من الاختلاف هو الذي أنكره عمر ، لما سمعه من هشام ، والذي أنكره أبي أيضا وعظم عليه ; لأنهما لما سمعا كلمات مخالفة للتي قرآ بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - . [ وقد دل على هذا : أن النسائي أخرج هذا الحديث . وقال فيه : إن عمر قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان ، فقرأ فيها حروفا لم يكن [ ص: 449 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها ، ولما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إني سمعت هذا يقرأ فيها حروفا لم تكن أقرأتنيها . وهذا نص ] . وعن ذلك تحرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يقصر أمته على حرف واحد ; حتى سأل الله - تعالى - في أن يخفف عنهم ، فأجيب إلى ذلك ، ووسع عليهم ، وأنهى التوسيع إلى هذه ; لأنها لغات أكثر العرب الحجازيين ، ولو ضيق على الناس حتى يقرأ الكل بلغة واحدة ; لشق ذلك عليهم ، وحرجوا ; لأنهم كانوا يكلفون أن يخرجوا عن أسلوب طباعهم وعاداتهم في كلامهم ، لا سيما في حدة الأمر وفجأته ، فلما وسع عليهم في ذلك [ أمر كل منهم أن يقرأ بلغته ولا ينكر على غيره ، واتسع الناس في ذلك ] في صدر الإسلام ، وإلى زمن عثمان - رضي الله عنه - ، فلما خاف عثمان - رضي الله عنه - أن يتعدى الناس حد التوسعة ومحلها ، وأدخل بعض الناس في مصحفه ما ليس بقرآن ; كالتشهد ، والقنوت ، وغير ذلك ، أو ما كان قد نسخت تلاوته ; شاور الصحابة على جمع الناس على مصحف واحد ، يكتبونه بلغة قريش ، فأجابوه لذلك ، واجتهدوا في ذلك غايتهم ، وبذلوا في حفظه وصيانته غاية وسعهم ، ثم أجمعوا على أن يكتبوه كذلك ، وأن يكتبوا منه نسخا ، وأن يوجهوها للأمصار [ ففعلوا ، فوجهوا للعراق والشام ومصر بأمهات ، فاتخذها قراء الأمصار معتمد اختياراتهم ] ، ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه ، وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم ، وينقصها بعضهم ; فذلك لأن كلامهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه أو رواه ; إذ قد كان عثمان قد كتب تلك المواضع في بعض [ ص: 450 ] نسخ المصاحف ، ولم يكتبها في بعض ; إشعارا بأن كل ذلك صحيح ، وأن القراءة بكل منها جائزة .

                                                                                              قلت : فكل ما تضمنته تلك المصاحف متواتر ، مجمع عليه من الصحابة وغيرهم ، وما خرج عن تلك المصاحف لا تجوز القراءة به ، ولا الصلاة ; لأنه ليس من القرآن المجمع عليه ، فأما هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ، فقال كثير من علمائنا ; كالداودي ، وابن أبي صفرة وغيرهما : إنها ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها ، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة ، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف ; ذكره ابن إسحاق وغيره . وهذه القراءات المشهورة هي اختيار أولئك الأئمة القراء ، وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روى وعلم وجهة من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى ، فالتزمه طريقة ، ورواه ، وأقرأ به فاشتهر عنه ، وعرف به ، فنسب إليه ، فقيل : حرف نافع ، وحرف ابن كثير ، ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر ، ولا أنكره ، بل سوغه وجوزه ، فكل واحد من هؤلاء السبعة ، روي عنهم اختياران أو أكثر ، وكل صحيح . وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة ، مما رووه ورأوه من القراءات ، وكتبوا في ذلك مصنفات ، فاستمر الإجماع على الصواب ، وحصل ما وعد الله - تعالى - به من حفظ الكتاب ، وعلى هذا الذي قررناه الأئمة المتقدمون ، والفضلاء المحققون ; كالقاضي أبي بكر ابن الطيب والطبري ، وغيرهما .

                                                                                              وقوله : فاقرؤوا ما تيسر منه ، الضمير في : " منه " عائد على القرآن ، [ ص: 451 ] لا على الأحرف ; إذ لو كان عائدا على الأحرف ; لقال : منها ، وإنما أعاده على القرآن ; ليبين أنه يجوز أن يقرأ بما تيسر من الأحرف ، ومن القرآن ، لا أنه إذا أباح الاقتصار على قراءة بعض القرآن ، فلأن يجوز الاقتصار على بعض الأحرف أولى .




                                                                                              الخدمات العلمية