الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 311 ] 125 - باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام من قوله : { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر }

844 - حدثنا ابن معبد ، حدثنا معلى بن منصور ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن محمد بن سعد ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } .

845 - حدثنا علي بن الحسين أبو عبيد ، حدثنا الحسن بن أبي الربيع أخبرنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمر بن سعد قال : [ ص: 312 ] ، حدثنا سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم ذكر مثله ، فاختلف زكريا بن أبي زائدة ومعمر بن راشد على أبي إسحاق في ابن سعد الذي بينه وبين سعد من هذا الحديث ، فذكر زكريا أنه محمد وذكر معمر أنه عمر ، والله أعلم بحقيقة ذلك منهما من هو .

846 - حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن منصور قال : سمعت أبا وائل ، وشعبة عن الأعمش قال : سمعت أبا وائل ، وشعبة عن زبيد قال : سمعت أبا وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله عليه السلام : { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } .

[ ص: 313 ]

847 - حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا سفيان ، حدثنا زبيد ، عن أبي وائل قال : قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم ذكر مثله .

848 - حدثنا علي بن شيبة ، حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي ، حدثنا سفيان ، عن زبيد ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم ذكر مثله قال : قلت لأبي وائل : أسمعت من عبد الله ؟ فقال : نعم .

849 - حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثني أبو عبد الله هريم بن مسعر الأزدي الترمذي ، أخبرنا الفضيل بن عياض ومنصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول ... ثم ذكر مثله .

[ ص: 314 ]

850 - وحدثنا ابن مرزوق ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم ذكر مثله .

فتأملنا هذا الحديث فوجدنا قوله : سباب المسلم فسوق مكشوف المعنى ، والفسوق المراد فيه هو الخروج عن الأمر المحمود إلى الأمر المذموم ، ومثله قول الله تعالى في إبليس : ففسق عن أمر ربه أي فخرج عن أمر ربه ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفأرة وفيما ذكره معها مما أباح قتله في الحرم والإحرام : { خمس فواسق يقتلن في الحرم والإحرام } فكان ذلك الفسوق الذي كان منهن هو خروجهن إلى الأذى الذي يؤذين به الناس ، وكان قوله : " وقتاله كفر " ليس على الكفر بالله تعالى حتى يكون به مرتدا ، ولكنه على تغطيته به إياه واستهلاك به إياه لأن الكفر هو [ ص: 315 ] التغطية للشيء ، التغطية التي تستهلكه ، ومنه قول الله تعالى : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ولا اختلاف بين أهل العلم بالتأويل أن الكفار الذين أريدوا هاهنا هم الزراع لأنهم يغطون ما يزرعون في الأرض التغطية التي يستهلكونه به .

ومما يدل على أن ذلك الكفر المذكور في هذا الحديث لم يرد به الكفر بالله تعالى بل قد وجدناه يقتل أخاه فلا يكون بقتله إياه كافرا بالله ، وإذا لم يكن بقتله إياه كافرا بالله كان بقتاله إياه أحرى أن لا يكون به كافرا .

ومثل ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الكسوف .

851 - حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب أن مالكا ، حدثه ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس في حديثه من كسوف الشمس ، عن النبي عليه السلام قال : { ورأيت النار فرأيت أكثر أهلها النساء ، قيل : لم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن ، قيل : يكفرن بالله تعالى ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط } .

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهن هذا كفرا لتغطيتهن به الإحسان الذي قد تقدم إليهن ، [ ص: 316 ] ومثله أيضا ما روي عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير هذا الحديث .

852 - كما حدثنا أبو أمية ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا قيس ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس قال : كان بين الأوس والخزرج شيء في الجاهلية فتذاكروا ما كان بينهم فثار بعضهم إلى بعض بالسيوف ، فأتي رسول الله عليه السلام فذكر ذلك له فذهب إليهم ، فنزلت هذه الآية : وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ ص: 317 ] فلم يكن بما كان منهم من القتال مما أنزل الله تعالى عنده هذه الآية التي ذكر فيها ما كان منهم بالكفر على الكفر بالله تعالى ، ولكن كان على تغطيتهم ما كانوا عليه قبل ذلك من الألفة والأخوة حتى إذا كان منهم ما كان منهم من ذلك فسمي كفرا لا يراد به الكفر بالله عز وجل ولكن الكفر الذي ذكرناه سواه .

ومثل ذلك ما قد روي عن ابن عباس في تأويله قول الله تعالى : ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون على ما تأوله عليه .

كما حدثنا ابن مرزوق ، حدثنا أبو حذيفة ، عن سفيان ، عن ابن طاووس ، عن أبيه قال : قيل لابن عباس : ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون قال : هي كفره وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر .

وحدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن طاووس قال : قلت لابن عباس : من لم يحكم [ ص: 318 ] بما أنزل الله فهو كافر ، قال : هو به كفره ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله ، ومثل ذلك أيضا ما قد رواه أبو هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

853 - كما حدثنا بكر بن إدريس ، عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة بن شريح ، أخبرني جعفر بن ربيعة القرشي أن عراك بن مالك أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا ترغبوا عن آبائكم ، فمن رغب عن أبيه فهو كفر } .

فذلك عندنا ، والله أعلم ، على مثل ما ذكرناه من مثله من هذا الباب .

[ ص: 319 ] ومثل ذلك أيضا ما قد رواه عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

854 - كما حدثنا الربيع المرادي وبحر بن نصر قالا : حدثنا بشر بن بكر ، عن ابن جابر ، حدثني أبو سلام ، حدثني خالد بن زيد قال : قال لي عقبة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها } .

فمثل ذلك الكفر الذي ذكر به المسلم من قتاله هو هذا الكفر لا الكفر بالله عز وجل ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية