الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه إن الله لا يحب المختال الفخور الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل .

ف الذين يحتمل أن يكون في موضع رفع ردا على ما في قوله فخورا من ذكر ، ويحتمل أن يكون نصبا على النعت ل من [ ص: 351 ]

والبخل في كلام العرب : منع الرجل سائله ما لديه وعنده ما فضل عنه كما

9493 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه في قوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل قال البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه والشح أن يشح على ما في أيدي الناس . قال يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحل والحرام لا يقنع

واختلفت القرأة في قراءة قوله ويأمرون الناس بالبخل .

فقرأته عامة قرأة أهل الكوفة بالبخل بفتح الباء والخاء

وقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين بضم الباء بالبخل

قال أبو جعفر : وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في قراءته .

وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل الذين كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم وصفته من اليهود ولم يبينوه للناس وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل

ذكر من قال ذلك

9494 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله [ ص: 352 ] قال هم اليهود بخلوا بما عندهم من العلم وكتموا ذلك

9495 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " إلى قوله وكان الله بهم عليما ما بين ذلك في يهود .

9496 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله

9497 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل : وهم أعداء الله أهل الكتاب بخلوا بحق الله عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل

9498 - حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل قال حدثنا أسباط عن السدي : أما الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل : فهم اليهود " ويكتمون ما آتاهم الله من فضله : اسم محمد صلى الله عليه وسلم - وأما يبخلون ويأمرون الناس بالبخل : يبخلون باسم محمد صلى الله عليه وسلم ويأمر بعضهم بعضا بكتمانه

9499 - حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال حدثني أبو جعفر الرازي قال حدثنا يحيى عن عارم عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل قال هذا للعلم ليس للدنيا منه شيء

9500 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل قال هؤلاء يهود . وقرأ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله قال يبخلون بما آتاهم الله من الرزق [ ص: 353 ] ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب إذا سئلوا عن الشيء وما أنزل الله كتموه وقرأ : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) [ سورة النساء 53 ] من بخلهم

9501 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار ، وكانوا يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل الله فيهم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " أي من النبوة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا إلى قوله وكان الله بهم عليما " .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية على التأويل الأول والله لا يحب ذوي الخيلاء [ ص: 354 ] والفخر الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم الله بتبيينه للناس من اسم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه وهم به عالمون ، ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك مثل علمهم بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته من حرم الله عليه كتمانه إياه .

وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد : إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا : الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما قاله الذين قالوا إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآية بالبخل بتعريف من جهل أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق وأن محمدا لله نبي مبعوث وغير ذلك من الحق الذي كان الله تعالى ذكره قد بينه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه فبخل بتبيينه للناس هؤلاء وأمروا من كانت حاله حالهم في معرفتهم به أن يكتموه من جهل ذلك ولا يبينوه للناس

وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل الآية لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلقا بل ترى ذلك قبيحا وتذم فاعله وتمتدح - وإن هي تخلقت بالبخل واستعملته في أنفسها - بالسخاء والجود وتعده من مكارم [ ص: 355 ] الأفعال وتحث عليه ولذلك قلنا إن بخلهم الذي وصفهم الله به إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه دون البخل بالأموال إلا أن يكون معنى ذلك الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وسبله ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك فيكون بخلهم بأموالهم وأمرهم الناس بالبخل بهذا المعنى - على ذكرنا من الرواية عن ابن عباس - فيكون لذلك وجه مفهوم في وصفهم بالبخل وأمرهم به .

التالي السابق


الخدمات العلمية