الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( القسم الثامن ) من الدعاء المحرم الذي ليس بكفر الدعاء المعلق بشأن الله تعالى وله أمثلة .

( الأول ) أن يقول اللهم افعل بي ما أنت له أهل في الدنيا والآخرة وهذا الدعاء يعتقد جماعة من العقلاء أنه حسن وهو قبيح وبيان ذلك أن الله تعالى كما هو أهل المغفرة في الذنوب هو أهل للمؤاخذة عليها ونسبة الأمرين إلى جلاله تعالى نسبة واحدة ، وكذلك تعلق قدرته تعالى وقضائه بالخيور كنسبة تعلقها بالمكاره والشرور وليس أحدهما أولى بشأنه من الآخر عند أهل الحق وأن له أن يفعل الأصلح لعباده وأن لا يفعله ، ونسبة الأمرين [ ص: 287 ] إليه تعالى نسبة واحدة وكل ذلك شأن الله تعالى في ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون والخلائق كلهم دائرون بين عدله وفضله فمن هلك منهم فبعدله ومن نجا فبفضله وعدله ، وفضله من شأنه ونسبتهما إليه تعالى نسبة واحدة لا يزيده الإحسان جلالا وعظمة ولا ينقص العدل من جلاله وعظمته بل الأمران مستويان بالنسبة إليه وكلاهما شأنه فمن دعا بشيء من ذلك ، وقال اللهم افعل بي ما أنت أهله فقد سأل من الله تعالى أن يفعل به إما الخير وإما الشر وأن يغفر له أو يؤاخذه ، وهذا معنى قوله عليه السلام { لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت } ولأن الدعاء بمثل هذا فيه إظهار الاستغناء وعدم الافتقار فيكون معصية إلا أن ينوي الداعي ما أنت أهله من الخير الجزيل ولا يقتصر في نيته على مطلق الخير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إذا سألتم الله فأعظموا المسألة فإن الله لا يتعاظمه شيء وإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الأعلى } ، فإن عريت نفس الداعي عن نية تعظيم المسألة مع القصد إلى الخير في الجملة فقد ذهب التحريم [ ص: 288 ] وإن عريت عن النية بالكلية كان بهذا اللفظ عاصيا وهذا الدعاء إنما يستقيم على مذهب المعتزلة الذين يعتقدون أن الله تعالى يجب عليه رعاية المصالح وأنه أهل للخير فقط ولا ينسب إلى شأنه إلا ذلك فهذا هو شأنه عندهم ، ومذهب الاعتزال إما كفر أو فسوق بالإجماع من أهل السنة فلا خير في هذا الدعاء على كل تقدير وهما مذهبان ضالان يسبقان إلى الطباع البشرية ولا يزال البشر معهما حتى تروضها العلوم العقلية والنقلية وهما الحشوية والاعتزال فلا يزال الإنسان يعتقد الجسمية بناء على العادة المألوفة ويعتقد أنه يخلق أفعاله وأن الله تعالى لا يفعل إلا الخير ولا يفعل الشر إلا شرير ولا يزال البشر كذلك حتى يرتاض بالعلم ، ولا شك أن كل أحد إنما يريد بهذا الدعاء الخير ولكن بناء على أن ذلك هو شأن الله تعالى وأنه أهله ليس إلا ، فهي شائبة اعتزال تسبق إلى الطباع فاحذرها واقصد بنيتك ما يليق بجلال ربك .

[ ص: 289 ] المثال الثاني ) أن يقول اللهم افعل بي في الدنيا والآخرة ما يليق بعظمتك واللائق بعظمته وجلاله وكبريائه وذاته وربوبيته وكل ما يأتي من هذا الباب واحدة وهو الفضل والعدل وهما على حد سواء ليس أحدهما أولى من الآخر بالنسبة إلى عظمته ، فيكون جميع ذلك محرما لما مر .

( الثالث ) أن يقول اللهم هبني ما يليق بقضائك وقدرك واللائق بقضائه وقدره الكثير والحقير والخير والشر ومحمود العاقبة وغير محمودها فيكون ذلك حراما لما تقدم

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( القسم الثامن من الدعاء المحرم الذي ليس بكفر الدعاء المعلق بشأن الله تعالى وله أمثلة : الأول أن يقول اللهم افعل بي ما أنت له أهل في الدنيا والآخرة ، وهذا الدعاء يعتقد جماعة من العقلاء أنه حسن وهو قبيح ، وبيان ذلك أن الله سبحانه كما هو أهل للمغفرة في الذنوب هو أهل للمؤاخذة عليها ونسبة الأمرين إلى جلاله تعالى نسبة واحدة ، وكذلك تعلق قدرته تعالى وقضائه بالخيور كنسبة تعلقها بالمكاره والشرور وليس أحدهما أولى بشأنه تعالى وجلاله من الآخر عند أهل الحق وأن له أن يفعل الأصلح لعباده وأن لا يفعله ، ونسبة الأمرين [ ص: 287 ] إليه تعالى نسبة واحدة كل ذلك شأن الله تعالى في ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون والخلائق كلهم دائرون بين عدله وفضله فمن هلك منهم فبعدله ومن نجا فبفضله وعدله وفضله من شأنه ونسبتها إليه تعالى نسبة واحدة لا يزيده الإحسان جلالا وعظمة ولا ينقص العدل من جلاله وعظمته بل الأمران مستويان بالنسبة إليه وكلاهما شأنه سبحانه وتعالى ، فمن دعا بشيء من ذلك وقال اللهم افعل بي ما أنت أهله فقد سأل الله تعالى أن يفعل به إما الخير وإما الشر وأن يغفر له أو يؤاخذه ، وهذا معنى قوله عليه السلام { لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت } ولأن الدعاء بمثل هذا فيه إظهار الاستغناء وعدم الافتقار فيكون معصية ) قلت قد تقدم أن ما قاله في مثل ذلك صحيح .

قال ( إلا أن ينوي الداعي ما أنت أهله من الخير الجزيل ، ولا يقتصر في نيته على مطلق الخير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إذا سألتم الله فأعظموا المسألة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى } ، فإن عريت نفس الداعي عن نية تعظيم المسألة مع القصد إلى الخير في الجملة فقد ذهب التحريم ) قلت [ ص: 288 ] ما قاله في ذلك صحيح والله تعالى أعلم . قال ( وإن عريت عن النية بالكلية كان بهذا اللفظ عاصيا ، وهذا الدعاء إنما يستقيم على مذهب المعتزلة الذين يعتقدون أن الله تعالى يجب عليه رعاية المصالح وأنه أهل للخير فقط ولا ينسب إلى شأنه إلا ذلك فهذا هو شأنه عندهم ومذهب الاعتزال إما الكفر أو فسوق بالإجماع من أهل السنة فلا خير في هذا الدعاء على كل تقدير ، وهما مذهبان ضالان يسبقان إلى الطباع البشرية ولا يزال البشر معها حتى تروضها العلوم العقلية والنقلية وهما الحشوية والاعتزال فلا يزال الإنسان يعتقد الجسمية بناء على العادة المألوفة ويعتقد أنه يخلق أفعاله وأن الله تعالى لا يفعل إلا الخير ولا يفعل الشر إلا شرير ولا يزال البشر كذلك حتى يرتاض بالعلم ولا شك أن كل أحد إنما يريد بهذا الدعاء الخير ولكن بناء على أن ذلك هو شأن الله تعالى وأنه أهله ليس إلا ، فهي شائبة اعتزال تسبق إلى الطباع فاحذرها واقصد بنيتك ما يليق بجلال ربك ) .

قلت حكمه بالمعصية في مثل هذا الدعاء فيه نظر فإنه لا يخلو أن يكون الداعي ممن يعتقد مذهب الاعتزال أو لا ، فإن كان الأول فذلك ضلال كما قال وهو مختلف فيه هل هو كفر أو ضلال غير كفر ؟ وإن كان لا يعتقد مذهب الاعتزال فقرينة الحال في كون الإنسان لا يريد إلا الخير مع سلامته من اعتقاد الاعتزال تقيد مطلق دعائه فلا كفر ولا معصية .

[ ص: 289 ] قال ( المثال الثاني أن يقول اللهم افعل بي في الدنيا والآخرة ما يليق بعظمتك إلى آخره ) قلت الكلام على هذا المثال كالذي قبله .

قال ( الثالث أن يقول اللهم هبني ما يليق بقضائك وقدرك ، واللائق بقضائه وقدره الكثير والحقير والخير والشر ومحمود العاقبة وغير محمودها فيكون ذلك حراما لما تقدم ) قلت الكلام عليه كما تقدم .




الخدمات العلمية