الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        المسألة الخامسة : في كيفية حساب المنفعة من الثلث .

                                                                                                                                                                        فإن أوصى بالمنفعة أبدا ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        ويقال : قولان .

                                                                                                                                                                        أصحهما عند الجمهور وهو نصه في اختلاف العراقيين وفي " الإملاء " وبه قال ابن الحداد : [ أنه ] تعتبر الرقبة بتمام منافعها من الثلث ; لأنه حال بين الوارث وبينها ، ولأن المنفعة المؤبدة لا يمكن تقويمها ; لأن مدة [ ص: 192 ] [ عمره ] غير معلومة وإذا تعذر تقويم المنافع تعين تقويم الرقبة .

                                                                                                                                                                        والثاني خرجه ابن سريج : أن المعتبر ما بين قيمتها بمنافعها ، وقيمتها مسلوبة المنافع ، واختاره الغزالي وطائفة .

                                                                                                                                                                        فعلى هذا ، هل تحسب قيمة الرقبة من التركة أم لا ؟ كما لا تحسب على الموصى له ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : الأول .

                                                                                                                                                                        مثاله : أوصى بعبد قيمته بمنافعه ، مائة .

                                                                                                                                                                        ودون المنافع عشرة .

                                                                                                                                                                        فعلى المنصوص : تعتبر المائة من الثلث .

                                                                                                                                                                        ويشترط أن يكون له مائتان سوى العبد .

                                                                                                                                                                        وعلى الثاني المعتبر تسعون .

                                                                                                                                                                        فيشترط أن يبقى للورثة ضعف التسعين مع العشرة على وجه ، ودونها على وجه .

                                                                                                                                                                        أما إذا أوصى بمنفعته مدة ، كسنة ، أو شهر ، ففيه طرق .

                                                                                                                                                                        أحدها : طرد الخلاف ، كالوصية المؤبدة .

                                                                                                                                                                        والثاني : إن اعتبرنا هناك ما بين القيمتين ، فهنا أولى ، وإلا ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : التفاوت .

                                                                                                                                                                        والثاني : الرقبة .

                                                                                                                                                                        والطريق الثالث : أن المعتبر من الثلث أجرة مثل تلك المدة .

                                                                                                                                                                        والرابع وهو أصحها : يقوم العبد بمنافعه ، ثم مسلوبا منفعته تلك المدة ، فما نقص حسب من الثلث .

                                                                                                                                                                        وقيمة الرقبة في هذه الحالة ، محسوبة من التركة بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        ويتفرع على الخلاف صور .

                                                                                                                                                                        إحداها : أوصى بمنفعة عبده ثلاث سنين ، ولا مال سواه ، إن اعتبرنا قيمة الرقبة من الثلث ، صحت الوصية في منافع الثلث ، وردت في الباقي .

                                                                                                                                                                        وإن اعتبرنا ما نقص ، وكان النقص نصف القيمة ، فهل ترد الوصية في سدس العبد ؟ أم ينقص من آخر المدة سدسها ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما الأول ; لأن قيمة المنافع تختلف بالأوقات .

                                                                                                                                                                        الصورة الثانية : أوصى لرجل برقبته ، ولآخر بمنفعته .

                                                                                                                                                                        إن قلنا : [ يعتبر من ] الثلث تمام القيمة ، نظر فيما سواه من التركة ، وأعطي كل واحد حقه كاملا أو غير كامل ، وإن قلنا : المعتبر التفاوت ، فإن حسبنا الرقبة على الوارث ، إذا بقيت له ، [ ص: 193 ] حسب هنا كمال القيمة عليهما ، وإلا ، لم تحسب أيضا على الموصى له بها .

                                                                                                                                                                        وتصح وصيته من غير اعتبار الثلث .

                                                                                                                                                                        كذا ذكره المتولي .

                                                                                                                                                                        [ الصورة ] الثالثة : أوصى بالرقبة لرجل ، وأبقى المنفعة للورثة ، فإن قلنا : المعتبر من الثلث كمال القيمة ، لم تعتبر هذه الوصية من الثلث ، لجعلنا الرقبة الخالية عن المنفعة كالتالفة .

                                                                                                                                                                        وإن قلنا : المعتبر التفاوت ، فإن حسبنا قيمة الرقبة على الوارث ، حسبت هنا قيمة الرقبة على أهل الوصايا ، وتدخل في الثلث ، وإلا ، فهنا يحسب قدر التفاوت على الوارث ، ولا تحسب قيمة الرقبة على أهل الوصايا .

                                                                                                                                                                        [ الصورة ] الرابعة : العبد الموصى بمنفعته ، لو غصبه غاصب ، فلمن تكون أجرة المدة التي كانت في يد الغاصب ؟ قال في " التتمة " : إن قلنا : المعتبر من الثلث جميع القيمة ، فهي للموصى له ، وكأنه فوت الرقبة على الوارث ، وإلا ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أنها للوارث ، كما لو غصب المستأجر .

                                                                                                                                                                        والصحيح : أنها للموصى له ; لأنه بدل حقه ، بخلاف الإجارة ، فإنها تنفسخ في تلك المدة فتعود المنافع إلى مالك الرقبة .

                                                                                                                                                                        [ الصورة ] الخامسة : أوصى بثمرة بستانه ، يخرج على الخلاف .

                                                                                                                                                                        ففي وجه : تعتبر جميع قيمة البستان من الثلث .

                                                                                                                                                                        وفي وجه : ما بين قيمته بمنافعه وفوائده ، وبين قيمته مسلوب الفوائد .

                                                                                                                                                                        فإن احتمله الثلث ، فذاك ، وإلا ، فللموصى له القدر الذي يحتمله ، والباقي للوارث .

                                                                                                                                                                        فإن لم يحتمل إلا نصفه ، فله من ثمره كل عام النصف . والباقي للوارث .

                                                                                                                                                                        [ ص: 194 ] فرع لابن الحداد : أوصى لرجل بدينار كل شهر من غلة داره ، أو كسب عبده ، وجعله بعده لوارث الرجل ، أو للفقراء والمساكين ، والغلة والكسب عشرة مثلا ، فاعتبار هذه الوصية من الثلث كاعتبار الوصية بالمنافع مدة معلومة ، لبقاء بعض المنافع لمالك الرقبة ، فيكون المذهب فيهما : أن المعتبر من الثلث قدر التفاوت بين القيمتين .

                                                                                                                                                                        ثم ينظر ، فإن خرجت الوصية من الثلث ، قال ابن الحداد : ليس للورثة أن يبيعوا بعض الدار ويدعوا ما يحصل منه دينار ; لأن الأجرة تختلف ، فقد تنقص فتعود إلى دينار أو أقل ، فيكون الجميع للموصى له .

                                                                                                                                                                        وهذا إذا أرادوا بيع بعضها على أن تكون الغلة للمشتري .

                                                                                                                                                                        فأما بيع مجرد الرقبة ، فعلى ما سبق من الخلاف في بيع الوارث الموصى بمنفعته .

                                                                                                                                                                        وإن لم يخرج من الثلث ، فالزائد على الثلث رقبة وغلة للوارث يتصرف فيه كيف شاء .

                                                                                                                                                                        ولو كانت الوصية بعشر الغلة كل سنة ، فما سوى العشر للوارث يتصرف فيه كيف شاء .

                                                                                                                                                                        فرع : أوصى لشخص بدينار كل سنة ، حكى الإمام : أن الوصية صحيحة في السنة الأولى بدينار .

                                                                                                                                                                        وفيما بعدها قولان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : الصحة ; لأن الجهالة لا تمنع صحة الوصية ، ولأن الوصية بالمنافع صحيحة لا إلى غاية .

                                                                                                                                                                        وأظهرهما : البطلان ; لأنه لا يعرف قدر الموصى به ليخرج من الثلث .

                                                                                                                                                                        فإن صححنا ، فإن لم يكن هناك وصية أخرى ، فللورثة التصرف في ثلثي التركة قطعا .

                                                                                                                                                                        وفي ثلثها وجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : ينفذ التصرف [ ص: 195 ] بعد إخراج الدينار الواحد ؛ لأنا لا نعلم استحقاق الموصى له في المستقبل .

                                                                                                                                                                        الثاني : أنه يوقف ; لأن الاستحقاق ثبت إلى أن يظهر قاطع .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا بالتوقف ، وبقي الموصى له إلى أن استوعبت دنانيره الثلث ، فذاك .

                                                                                                                                                                        وإن مات ، فعن صاحب التقريب : أن بقية الثلث تسلم لورثة الموصي .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : وفيه نظر ; لأن هذه الوصية إذا صححناها ، كالوصية بالثمار بلا نهاية ، فوجب انتقال الحق إلى ورثة الموصى له .

                                                                                                                                                                        وإن نفذنا تصرفهم ، فكلما انقضت سنة ، طالب الموصى له الورثة بدينار ، وكان ذلك كوصية تظهر بعد قسمة التركة .

                                                                                                                                                                        وإن كان هناك وصايا أخر .

                                                                                                                                                                        قال صاحب " التقريب " : يوزع الثلث بعد الدينار الواحد على أصحاب الوصايا ، ولا يتوقف .

                                                                                                                                                                        فإذا انقضت سنة أخرى ، استرد منهم بدينار ما يقتضيه التقسيط .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : هذا بين إذا كانت الوصية مقيدة بحياة الموصى له .

                                                                                                                                                                        فأما إذا لم نقيد ، وأقمنا ورثته مقامه ، فهو مشكل لا يهتدى إليه .

                                                                                                                                                                        فرع : لو انهدمت الدار الموصى بمنافعها ، فأعادها الوارث بآلتها ، هل يعود حق الموصى له ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        ولو أراد الموصى له إعادتها بآلتها ، فعلى الوجهين .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما العود .

                                                                                                                                                                        والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية