الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (58) قوله تعالى : بفضل الله وبرحمته : في تعلق هذا الجار أوجه ، أحدها : أن " بفضل " و " برحمته " متعلق بمحذوف تقديره : بفضل الله وبرحمته ليفرحوا بذلك فليفرحوا ، فحذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، فهما جملتان ، ويدل على ذلك قول الزمخشري : " أصل الكلام : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح فإنه لا مفروح به أحق منهما .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن الجار الأول متعلق أيضا بمحذوف دل عليه السياق والمعنى ، لا نفس الفعل الملفوظ به والتقدير : بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا قاله الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يتعلق الجار الأول بـ " جاءتكم " قال الزمخشري : " ويجوز أن يراد " قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، أي فبمجيئها فليفرحوا " . قال الشيخ : " أما إضمار " فليعتنوا " فلا دليل عليه " قلت : الدلالة عليه من السياق واضحة ، وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ : " وأما تعلقه بقوله : " قد جاءتكم " فينبغي أن يقدر [ ص: 224 ] محذوفا بعد " قل " ، ولا يكون متعلقا بـ " جاءتكم " الأولى للفصل بينهما بـ " قل " . قلت : هذا إيراد واضح ، ويجوز أن تكون " بفضل الله " صفة لـ " موعظة " أي : موعظة مصاحبة أو ملتبسة بفضل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : قال الحوفي : " الباء متعلقة بما دل عليه المعنى أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله " .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن الفاء الأولى زائدة ، وأن قوله " بذلك " بدل مما قبله وهو بفضل الله وبرحمته وأشير بذلك إلى اثنين وهما الفضل والرحمة كقوله : لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ، وكقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2601 - إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل



                                                                                                                                                                                                                                      وفي هاتين الفاءين أوجه ، أحدهما : أن الأولى زائدة ، وقد تقدم تحريره في الوجه الخامس . الثاني : أن الفاء الثانية مكررة للتوكيد ، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة ، ويكون أصل التركيب : فبذلك ليفرحوا ، وعلى القول الأول قبله يكون أصل التركيب : بذلك فليفرحوا . الثالث : قال أبو البقاء : " الفاء الأولى مرتبطة بما قبلها ، والثانية بفعل محذوف تقديره : فليعجبوا بذلك فليفرحوا كقولهم : " زيدا فاضربه أي : تعمد زيدا فاضربه " .

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على " فليفرحوا " بياء الغيبة . وقرأ عثمان بن عفان وأبي وأنس والحسن وأبو رجاء وابن هرمز وابن سيرين بتاء الخطاب ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الزمخشري : " وهو الأصل والقياس " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 225 ] وقال الشيخ : " إنها لغة قليلة " يعني أن القياس أن يؤمر المخاطب بصيغة افعل ، وبهذا الأصل قرأ أبي " فافرحوا " وهي في مصحفه كذلك ، وهذه قاعدة كلية : وهي أن الأمر باللام يكثر في الغائب والمخاطب المبني للمفعول مثال الأول : " ليقم زيدا " وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور ، ومثال الثاني : ليعن بحاجتي ، ولتضرب يا زيد . فإن كان مبنيا للفاعل كان قليلا كقراءة عثمان ومن معه . وفي الحديث " لتأخذوا مصافكم " بل الكثير في هذا النوع الأمر بصيغة افعل نحو : قم يا زيد وقوموا ، وكذلك يضعف الأمر باللام للمتكلم وحده أو ومعه غيره ، فالأول نحو " لأقم " تأمر نفسك بالقيام ، ومنه قوله عليه السلام : " قوموا فلأصل لكم " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومثال الثاني : لنقم أي : نحن وكذلك النهي ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      2602 - إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد     بها أبدا ما دام فيها الجراضم



                                                                                                                                                                                                                                      ونقل ابن عطية عن ابن عامر أنه قرأ " فلتفرحوا " خطابا ، وهذه ليست مشهورة عنه . وقرأ الحسن وأبو التياح " فليفرحوا " بكسر اللام ، وهو الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : هو خير مما يجمعون " هو " عائد على الفضل والرحمة ، وإن [ ص: 226 ] كانا شيئين ؛ لأنهما بمعنى شيء واحد ، عبر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد ، ولذلك أشير إليهما بإشارة الواحد . وقرأ ابن عامر " تجمعون " بالتاء خطابا وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون من باب الالتفات فيكون في المعنى كقراءة الجماعة ، فإن الضمير يراد به من يراد بالضمير في قوله : " فليفرحوا " . والثاني : أنه خطاب لقوله : يا أيها الناس قد جاءتكم ، وهذه القراءة تناسب قراءة الخطاب في قوله : " فليفرحوا " ، وقد تقدم أن ابن عطية نقلها عنه أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية