الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقد قال أبو ذر: «رآه بقلبه ولم يره بعينه».

قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: إنهم يقولون: إن عائشة قالت: «من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» فبأي شيء يدفع قول عائشة؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي» وقول النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 180 ] أكبر من قولها.

وقال: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا قال: أنا أقول: إن الله يرى في الآخرة، ولا أقول: إن محمدا رأى ربه في الدنيا، وقد أنكر عليه قوم واعتزلوا أن يصلوا خلفه، وهو إمام، فغضب وقال: «أهل أن يجفى، ما اعتراضه في هذا الموضع؟ يسلم الخبر كما جاء».

قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال: قرأت على أبي عبد الله إبراهيم بن الحكم، حدثني أبي، عن عكرمة قال: سألت ابن عباس: «هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال: نعم، رآه دون ستر من لؤلؤ». قال المروذي: قرأته عليه بطوله فصححه، وقد روى أبو بكر بن أبي داود في كتاب السنة من [ ص: 181 ] جملة كتاب السنن هذا الخبر عن عكرمة قال: سئل ابن عباس: «هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم، قال: كيف رآه؟ قال: في صورة. فقلت أنا لابن عباس: أليس هو يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير [الأنعام: 103] قال: لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء».

وقد روى أبو بكر بن خزيمة الرؤية عن ابن عباس من هذا الوجه، فقال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن أبي حكيم العدني، حدثنا الحكم بن أبان، سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس وسئل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال: نعم، قال: فقلت لابن عباس: أليس الله يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [الأنعام: 103] قال: لا أم لك ذاك نوره [ ص: 182 ] إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء.

قال محمد بن يحيى: امتنع علي إبراهيم بن الحكم في هذا الحديث، فخار الله لي أحلى منه، يعني أن يزيد بن أبي حكيم أحلى من إبراهيم بن الحكم، أي أنه أوثق منه.

قال محمد بن يحيى: قال لي ابنه -يعني ابن إبراهيم بن الحكم- تعال حتى نحدثك فلم أذهب، فحدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال: ثنا موسى بن عبد العزيز القنباري، حدثني الحكم يعني ابن أبان قال: حدثني عكرمة قال: سئل ابن عباس: هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم، قلت أنا لابن عباس: أليس يقول الرب عز وجل: لا تدركه الأبصار وهو يدرك [ ص: 183 ] الأبصار [الأنعام 103] فقال: لا أم لك، وكانت كلمته لي: «ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء».

فهذا التفسير من ابن عباس يقتضي أنه رآه بالبصيرة، فإنما يرى إذا ما لم يتجل بنوره الذي هو نوره، هذا مشروح في غير هذا الموضع؛ ولهذا فقد قال: إنه تفسير لحديث أبي ذر، وأن المنفي فيه قولان كالمنفي في قول ابن عباس هذا.

وأنه كما قيل في قوله تعالى: لا تدركه الأبصار أنك ترى السماء ولا تدركها؛ فلذلك قيل: وإذا حدقت فيها عشي بصرك، وإنما أنكر أحمد على من نفى أحاديث رؤيته في الدنيا مطلقا؛ لأن من الجهمية طوائف يقولون: إن الله لا يجوز أن يرى بالأبصار ولا بالقلوب أصلا، وطوائف يقولون: إنه لا يجوز أن يرى في المنام أيضا، وهؤلاء يجحدون كل ما فيه إثبات أن [ ص: 184 ] محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، سواء كان بفؤاده أو في منامه أو غير ذلك، وهؤلاء الجهمية ضلال باتفاق أهل السنة؛ ولهذا كان أحمد ينكر على هؤلاء ردهم ما في ذلك من الأخبار التي تلقاها العلماء بالقبول كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإذا كانوا يمنعون أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده أو في منامه فهم لرؤية غيره أجحد وأجحد، وقد ذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم ذلك عن طوائف من الجهمية حتى إن من المعتزلة من يقول: يجوز أن يرى بالقلوب بمعنى العلم، ومنهم من ينكر ذلك، كما نقل ذلك الأشعري في المقالات، فقال:

التالي السابق


الخدمات العلمية