الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه وكذلك كل مكره يخاف فإنه يذب عنه المظالم ويقاتل دونه ولا يخذله فإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص وإن قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لتبيعن عبدك أو تقر بدين أو تهب هبة وتحل عقدة أو لنقتلن أباك أو أخاك في الإسلام وما أشبه ذلك وسعه ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم وقال بعض الناس لو قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لنقتلن ابنك أو أباك أو ذا رحم محرم لم يسعه لأن هذا ليس بمضطر ثم ناقض فقال إن قيل له لنقتلن أباك أو ابنك أو لتبيعن هذا العبد أو تقر بدين أو تهب يلزمه في القياس ولكنا نستحسن ونقول البيع والهبة وكل عقدة في ذلك باطل فرقوا بين كل ذي رحم محرم وغيره بغير كتاب ولا سنة وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم لامرأته هذه أختي وذلك في الله وقال النخعي إذا كان المستحلف ظالما فنية الحالف وإن كان مظلوما فنية المستحلف

                                                                                                                                                                                                        6551 حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أن سالما أخبره أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه ) جواب الشرط يأتي بعده .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 339 ] قوله : ( وكذلك كل مكره يخاف فإنه ) أي المسلم ( يذب ) بفتح أوله وضم الذال المعجمة أي يدفع ( عنه الظالم ويقاتل دونه ) أي عنه ( ولا يخذله ) قال ابن بطال : ذهب مالك والجمهور إلى أن من أكره على يمين إن لم يحلفها قتل أخوه المسلم أنه لا حنث عليه ، وقال الكوفيون يحنث لأنه كان له أن يوري فلما ترك التورية صار قاصدا لليمين فيحنث . وأجاب الجمهور بأنه إذا أكره على اليمين فنيته مخالفة لقوله : " الأعمال بالنيات " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص ) قال الداودي : أراد لا قود ولا دية عليه ولا قصاص ، قال والدية تسمى أرشا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : والأولى أن قوله : " ولا قصاص " تأكيد ، أو أطلق القود على الدية .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن بطال : اختلفوا فيمن قاتل عن رجل خشي عليه أن يقتل فقتل دونه هل يجب على الآخر قصاص أو دية؟ فقالت طائفة : لا يجب عليه شيء للحديث المذكور ففيه " ولا يسلمه " وفي الحديث الذي بعده " انصر أخاك " وبذلك قال عمر ، وقالت طائفة : عليه القود وهو قول الكوفيين وهو يشبه قول ابن القاسم وطائفة من المالكية ، وأجابوا عن الحديث بأن فيه الندب إلى النصر وليس فيه الإذن بالقتل ، والمتجه قول ابن بطال أن القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع الظلم بكل ما يمكنه ، فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم وإنما يقصد دفعه فلو أتى الدفع على الظالم كان دمه هدرا وحينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه أو عن غيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لنبيعن عبدك أو لتقر بدين أو تهب هبة أو تحل عقدة أو لنقتلن أباك أو أخاك في الإسلام وما أشبه ذلك وسعه ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلم أخو المسلم ) قال الكرماني : المراد بحل العقدة فسخها وقيد الأخ بالإسلام ليكون أعم من القريب " وسعه ذلك " أي جاز له جميع ذلك ليخلص أباه وأخاه .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن بطال ما ملخصه : مراد البخاري أن من هدد بقتل والده أو بقتل أخيه في الإسلام إن لم يفعل شيئا من المعاصي أو يقر على نفسه بدين ليس عليه أو يهب شيئا لغيره بغير طيب نفس منه أو يحل عقدا كالطلاق والعتاق بغير اختياره أنه يفعل جميع ما هدد به لينجو أبوه من القتل وكذا أخوه المسلم من الظلم ودليله على ذلك ما ذكره في الباب الذي بعده موصولا ومعلقا ، ونبه ابن التين على وهم وقع للداودي الشارح حاصله أن الداودي وهم في إيراد كلام البخاري فجعل قوله : " لتقتلن " بالتاء وجعل قول البخاري وسعه ذلك " لم يسعه ذلك " ثم تعقبه بأنه إن أراد لا يسعه في قتل أبيه أو أخيه فصواب ، وأما الإقرار بالدين والهبة والبيع فلا يلزم ، واختلف في الشرب والأكل ، قال ابن التين : قرأ لتقتلن بتاء المخاطبة وإنما هو بالنون .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال بعض الناس لو قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لنقتلن ابنك أو أباك أو ذا رحم محرم لم يسعه ؛ لأن هذا ليس بمضطر ، ثم ناقض فقال : إن قيل له لتقتلن أباك أو لتبيعن هذا العبد أو لتقرن بدين أو بهبة يلزمه في القياس ، ولكنا نستحسن ونقول البيع والهبة وكل عقدة في ذلك باطل ) .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال : معناه أن ظالما لو أراد قتل رجل فقال لولد الرجل مثلا إن لم تشرب الخمر أو تأكل الميتة قتلت أباك ، وكذا لو قال له قتلت ابنك أو ذا رحم لك ففعل لم يأثم عند الجمهور ، وقال أبو حنيفة يأثم لأنه ليس بمضطر لأن الإكراه إنما يكون فيما يتوجه إلى الإنسان في خاصة نفسه لا في غيره ، وليس له أن يعصي الله حتى يدفع عن غيره بل الله سائل الظالم ولا يؤاخذ الابن لأنه لم يقدر على الدفع إلا بارتكاب ما لا يحل له ارتكابه ، قال : ونظيره في القياس ما لو قال إن لم تبع عبدك أو تقر بدين أو تهب هبة أن كل ذلك ينعقد ، كما لا يجوز له أن [ ص: 340 ] يرتكب المعصية في الدفع عن غيره .

                                                                                                                                                                                                        ثم ناقض هذا المعنى فقال : ولكنا نستحسن ونقول البيع وغيره من العقود كل ذلك باطل ، فخالف قياس قوله بالاستحسان الذي ذكره ، فلذلك قال البخاري بعده فرقوا بين كل ذي رحم محرم وغيره بغير كتاب ولا سنة ، يعني أن مذهب الحنفية في ذي رحم بخلاف مذهبهم في الأجنبي ، فلو قيل لرجل : لنقتلن هذا الرجل الأجنبي أو لتبيعن كذا ففعل لينجيه من القتل لزمه البيع ، ولو قيل له ذلك في ذي رحمه لم يلزمه ما عقده .

                                                                                                                                                                                                        والحاصل أن أصل أبي حنيفة اللزوم في الجميع قياسا لكن يستثنى من له منه رحم استحسانا ، ورأى البخاري أن لا فرق بين القريب والأجنبي في ذلك لحديث : المسلم أخو المسلم فإن المراد به أخوة الإسلام لا النسب ، ولذلك استشهد بقول إبراهيم " هذه أختي " ، والمراد أخوة الإسلام ، وإلا فنكاح الأخت كان حراما في ملة إبراهيم ، وهذه الأخوة توجب حماية أخيه المسلم والدفع عنه فلا يلزمه ما عقده ولا إثم عليه فيما يأكل ويشرب للدفع عنه ، فهو كما لو قيل له لتفعلن كذا أو لأقتلنك يسعه إتيانها ولا يلزمه الحكم ولا يقع عليه الإثم .

                                                                                                                                                                                                        وقال الكرماني : يحتمل أن يقرر البحث المذكور بأن يقال إنه ليس بمضطر لأنه مخير في أمور متعددة والتخيير ينافي الإكراه ، فكما لا إكراه في الصورة الأولى وهي الأكل والشرب والقتل كذلك لا إكراه في الصورة الثانية وهو البيع والهبة والعتق ، فحيث قالوا ببطلان البيع استحسانا فقد ناقضوا إذ يلزم منه القول بالإكراه وقد قالوا بعدم الإكراه .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ولقائل أن يقول بعدم الإكراه أصلا ، وإنما أثبتوه بطريق القياس في الجميع لكن استحسنوا في أمر المحرم لمعنى قام به ، وقوله في أول التقرير " في أمور متعددة " ليس كذلك بل الذي يظهر أن " أو " فيه للتنويع لا للتخيير وأنها أمثلة لا مثال واحد ثم قال الكرماني : وقوله أي البخاري إن تفريقهم بين المحرم وغيره شيء قالوه لا يدل عليه كتاب ولا سنة أي ليس فيهما ما يدل على الفرق بينهما في باب الإكراه ، وهو أيضا كلام استحساني ، قال : وأمثال هذه المباحث غير مناسبة لوضع هذا الكتاب إذ هو خارج عن فنه .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهو عجب منه لأن كتاب البخاري كما تقدم تقريره لم يقصد به إيراد الأحاديث نقلا صرفا بل ظاهر وضعه أنه يجعل كتابا جامعا للأحكام وغيرها ، وفقهه في تراجمه ، فلذلك يورد فيه كثيرا الاختلاف العالي ويرجح أحيانا ويسكت أحيانا توقفا عن الجزم بالحكم ويورد كثيرا من التفاسير ويشير فيه إلى كثير من العلل وترجيح بعض الطرق على بعض ، فإذا أورد فيه شيئا من المباحث لم تستغرب ، وأما رمزه إلى أن طريقة البحث ليست من فنه . فتلك شكاة ظاهر عنك عارها ، فللبخاري أسوة بالأئمة الذين سلك طريقهم كالشافعي وأبي ثور والحميدي وأحمد وإسحاق ، فهذه طريقتهم في البحث وهي محصلة للمقصود وإن لم يعرجوا على اصطلاح المتأخرين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إبراهيم لامرأته ) في رواية الكشميهني " لسارة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هذه أختي وذلك في الله ) هذا طرف من قصة إبراهيم وسارة مع الجبار ، وقد وصله في أحاديث الأنبياء وليس فيه " وذلك في الله " بل تقدم هناك ثنتان منهما في ذات الله قوله : إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ومفهومه أن الثالثة وهي قوله : " هذه أختي " ليست في ذات الله ، فعلى هذا فقوله : " وذلك في الله " من كلام البخاري ولا مخالفة بينه وبين مفهوم الحديث المذكور ، لأن المراد أنهما من جهة محض الأمر الإلهي بخلاف الثالثة فإن فيها شائبة نفع وحظ له ، ولا ينفي أن يكون في الله أي من أجل توصله بذلك إلى السلامة مما أراده الجبار منها أو منه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 341 ] قوله : ( وقال النخعي : إذا كان المستحلف ظالما فنية الحالف ، وإن كان مظلوما فنية المستحلف ) وصله محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عنه بلفظ : " إذا استحلف الرجل وهو مظلوم فاليمين على ما نوى وعلى ما ورى ، وإذا كان ظالما فاليمين على نية من استحلفه ، ووصله ابن أبي شيبة من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي بلفظ : " إذا كان الحالف مظلوما فله أن يوري ، وإن كان ظالما فليس له أن يوري ) قال ابن بطال : قول النخعي يدل على أن النية عنده نية المظلوم أبدا . وإلى مثله ذهب مالك والجمهور ، وعند أبي حنيفة النية نية الحالف أبدا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ومذهب الشافعي أن الحلف إن كان عند الحاكم فالنية نية الحاكم وهي راجعة إلى نية صاحب الحق ، وإن كان في غير الحكم فالنية نية الحالف .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال : ويتصور كون المستحلف مظلوما أن يكون له حق في قبل رجل فيجحده ولا بينة له فيستحلفه فتكون النية نيته لا الحالف فلا تنفعه في ذلك التورية .

                                                                                                                                                                                                        ذكر البخاري حديث ابن عمر مرفوعا المسلم أخو المسلم قد تقدم من هذا الوجه بأتم من هذا السياق في كتاب المظالم مشروحا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية