الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        701 [ ص: 319 ] ( 6 ) باب ما جاء في ليلة القدر

                                                                                                                        662 - مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ؟ أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان . فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه قال : " من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد من صبحها في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر " .

                                                                                                                        قال أبو سعيد : فأمطرت السماء تلك الليلة . وكان المسجد على عريش . فوكف المسجد .

                                                                                                                        قال أبو سعيد : فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح ليلة إحدى وعشرين .

                                                                                                                        [ ص: 320 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 320 ] 15042 - قال أبو عمر : في هذا الحديث دليل على أن الاعتكاف في رمضان سنة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على الاعتكاف فيه ، وما واظب عليه فهو سنة .

                                                                                                                        15043 - والدليل على أنه كان يعتكف في كل رمضان قوله : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان " . وهذا اللفظ يدل على المداومة .

                                                                                                                        15044 - وفي رواية محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد في هذا الحديث بيان ذلك عن عائشة ، قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان " .

                                                                                                                        15045 - وأما قوله : " حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبيحتها من اعتكافه " .

                                                                                                                        15046 - هكذا رواه يحيى بن بكير ، والشافعي عن مالك : " يخرج فيها من صبيحتها " .

                                                                                                                        15047 - ورواه القعنبي ، وابن وهب ، وابن القاسم ، وجماعة عن مالك وقالوا فيه : " وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه " .

                                                                                                                        [ ص: 321 ] 15048 - وقد ذكرنا مسألة خروج المعتكف في العشر الأواخر أي وقت هو في باب " خروج المعتكف إلى العيد " .

                                                                                                                        15049 - وأما خروج من اعتكف العشر الوسط ، أو اعتكف في أول الشهر ف :

                                                                                                                        15050 - روى ابن وهب ، وابن عبد الحكم ، عن مالك ، قال : من اعتكف أول الشهر أو وسطه فليخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه ، وإن اعتكف ، في آخر الشهر فلا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد ، وكذلك بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        15051 - قال أبو عمر : لا أعلم خلافا في المعتكف في غير رمضان أو في العشر الأول أو الوسط من رمضان أنه لا يخرج من اعتكافه إلا إذا غربت الشمس من آخر أيام اعتكافه .

                                                                                                                        15052 - وهذا يعضد ويشهد بصحة رواية من روى " يخرج فيها من اعتكافه " .

                                                                                                                        وأن رواية من روى يخرج من صبيحتها وهم ، وأظن الوهم دخل عليهم من مذهبهم في خروج المعتكف العشر الأواخر في صبيحة يوم الفطر .

                                                                                                                        15053 - حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو سلمة القعنبي ، قال : حدثنا مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي [ ص: 322 ] الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه . . " ، وذكر الحديث .

                                                                                                                        15054 - وروى البخاري عن عبد الله بن منير ، عن هارون بن إسماعيل ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن كثير ، عن أبي سلمة ، أنه سأل أبا سعيد الخدري ، قال : قلت : هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر ليلة القدر ؟ قال : نعم ، اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان ، فخرجنا صبيحة عشرين ، فخطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبيحة عشرين ، فقال : " إني أريت ليلة القدر . . فذكر الحديث .

                                                                                                                        15055 - كذا قال : " صبيحة عشرين " ، وهذا خلاف ما رواه مالك وغيره في حديث أبي سعيد الخدري هذا ، والوجه عندي - والله أعلم - أنه أراد : خطبهم غداة عشرين ليعرفهم أنه اليوم الآخر من أيام اعتكافهم ، وأن الليلة التي تلك الصبيحة هي ليلة إحدى وعشرين - هي المطلوب فيها ليلة القدر بما رأى من الرؤيا .

                                                                                                                        15056 - وقوله : " إني أريتها ثم أنسيتها ، ورأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين ; فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر " . فهذا يدل على أن ليلة القدر تنتقل ، ويخيل أن يكون قوله : " التمسوها في العشر الأواخر " يعني في الوتر [ ص: 323 ] منها ، أي في ذلك العام ، والله أعلم ، ويحتمل أن يكون ذلك في الأغلب من كل عام ، ورؤياه - صلى الله عليه وسلم - دلته على أنها من ذلك العام في الأيام الباقية من شهر رمضان ، وهي العشر الأواخر وأنها في الوتر منها ؛ فلذلك خاطبهم ثم خاطبهم به ، والله أعلم .

                                                                                                                        15057 - ويدل على هذا التأويل اختلاف الأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - واختلاف العلماء فيها على ما نراه في هذا الباب إن شاء الله .

                                                                                                                        15058 - حدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا أحمد بن منصور قال : حدثنا عبد الرحيم بن شريك ، عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر ، فإني قد رأيتها فنسيتها ، وهي ليلة مطر وريح " .

                                                                                                                        أو قال : " قطر وريح " .

                                                                                                                        15059 - قال أبو عمر : هذا يدل على أنه أراد في ذلك العام ، والله أعلم .

                                                                                                                        15060 - وأما قوله : " وكان المسجد على عريش فوكف " فإنه أراد أن سقفه كان معرشا بالجريد من غير طين ، ولذلك كان يكف .

                                                                                                                        15061 - وقوله : فوكف ، يعني : هطل فتبلل المسجد من ذلك ماء وطينا .

                                                                                                                        15062 - وقد اختلف قول مالك في الصلاة في الطين على حسب اختلاف الأحوال ; فمرة قال : لا يجزيه إلا أن ينزل بالأرض ويسجد عليها على حسب ما [ ص: 324 ] يمكنه استدلالا بهذا الحديث ؛ لقوله فيه : " فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين " ، ومرة قال : يجزيه أن يومئ إيماء ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، يعني إذا كان الماء قد أحاط به .

                                                                                                                        15063 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن عمر بن يحيى بن حرب قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد أنه قال : أومأ في ماء وطين .

                                                                                                                        15064 - قال عمرو : وما رأيت أعلم من جابر بن زيد .

                                                                                                                        15065 - وقد ذكرنا في " التمهيد " حديث يعلى بن أمية قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابتنا السماء ، فكانت البلة من تحتنا والسماء من فوقنا ونحن في مضيق ، فحضرت الصلاة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأذن وأقام ، وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته والقوم على راحلتهم ، يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع .

                                                                                                                        15066 - وقد ذكرنا هذا من طرق في " التمهيد " ، وعن جماعة من التابعين مثل ذلك بالأسانيد .

                                                                                                                        [ ص: 325 ] 15067 - وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الصلاة المكتوبة على الراحلة ؟ فقال : في شدة الحرب ، وأما الأمن فلا إلا في موضعين : التطوع ، وفي الطين المحيط به .

                                                                                                                        15068 - وقد تكلمنا على هذه المسألة في " التمهيد " وأتينا منه هاهنا وفي كتاب الصلاة بما فيه كفاية ، والحمد لله .

                                                                                                                        15069 - وفي هذا الحديث ما يدل أن السجود على الأنف والجبهة جميعا ، واجتمع العلماء على أنه إذا سجد على جبهته وأنفه فقد أدى فرض سجوده .

                                                                                                                        15070 - واختلفوا فيمن سجد على أنفه دون جبهته أو على جبهته دون أنفه ؛ فقال مالك : يسجد على جبهته وأنفه ، فإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجزه ، وإن سجد على جبهته دون أنفه فقد أدى ولا إعادة عليه .

                                                                                                                        15071 - وقال الشافعي : لا يجزيه حتى يسجد على جبهته وأنفه .

                                                                                                                        15072 - وهو قول الحسن بن حي .

                                                                                                                        15073 - واحتج الشافعي بحديثه في هذا الباب وبقوله - عليه السلام - : " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء . . " وذكر منها الوجه .

                                                                                                                        15074 - وبان في حديث أبي سعيد هذا أن سجوده على وجهه كان على جبهته وأنفه .

                                                                                                                        15075 - روى حماد بن سلمة عن عاصم الأحول ، عن عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من لم يضع أنفه في الأرض في سجوده فلا صلاة له " .

                                                                                                                        [ ص: 326 ] 15076 - وقال أبو حنيفة : إذا سجد على جبهته أو ذقنه أو أنفه أجزأه .

                                                                                                                        15077 - وحجته حديث ابن عباس عن النبي - عليه السلام - : " أمرت أن أسجد على سبعة آراب . . " فذكر منها الوجه .

                                                                                                                        15078 - قالوا : فأي شيء وضع من الوجه أجزأه .

                                                                                                                        15079 - وهذا ليس بشيء ؛ لأن حديث ابن عباس قد ذكر فيه جماعة من الحفاظ الأنف والجبهة .

                                                                                                                        15080 - وقد ذكرناه في " التمهيد " من طرق .

                                                                                                                        15081 - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المبين عن الله عز وجل مراده قولا وفعلا .




                                                                                                                        الخدمات العلمية