الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 506 ] الفصل الرابع عشر : حالة الأنبياء في الخوف والاستغفار

          فإن قلت : فإذا نفيت عنهم - صلوات الله عليهم - الذنوب ، والمعاصي بما ذكرته من اختلاف المفسرين ، وتأويل المحققين فما معنى قوله - تعالى - : وعصى آدم ربه فغوى وما تكرر في القرآن والحديث الصحيح من اعتراف الأنبياء بذنوبهم ، وتوبتهم ، واستغفارهم ، وبكائهم على ما سلف منهم ، وإشفاقهم . وهل يشفق ، ويتاب ، ويستغفر من لا شيء ؟ .

          فاعلم وفقنا الله وإياك أن درجة الأنبياء في الرفعة ، والعلو ، والمعرفة بالله ، وسنته في عباده ، وعظم سلطانه وقوة بطشه ، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله ، والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم ، وأنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ، ولا أمروا بها ، ثم ووخذوا عليها ، وعوتبوا بسببها وحذروا من المؤاخذة بها ، وأتوها على وجه التأويل أو السهو ، أو تزيد من أمور الدنيا المباحة ، خائفون وجلون ، وهي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم ، ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم ، ومعاصيهم ، فإن الذنب مأخوذ من الشيء الدني الرذل ، ومنه ذنب كل شيء أي آخره . وأذناب الناس رذالهم ، فكأن هذه أدنى أفعالهم ، وأسوأ ما يجري من أحوالهم لتطهيرهم ، وتنزيههم ، وعمارة بواطنهم ، وظواهرهم بالعمل الصالح ، والكلم الطيب ، والذكر الظاهر ، والخفي ، والخشية لله ، وإعظامه في السر ، والعلانية ، وغيرهم يتلوث من الكبائر ، والقبائح ، والفواحش ما تكون بالإضافة إليه هذه الهنات في حقه كالحسنات ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أي يرونها بالإضافة إلى علي أحوالهم كالسيئات .

          وكذلك العصيان الترك والمخالفة ، فعلى مقتضى اللفظة كيفما كانت من سهو أو تأويل فهي مخالفة وترك .

          وقوله - تعالى - : غوى أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها ، والغي : الجهل .

          وقيل : أخطأ ما طلب من الخلود ، إذ أكلها ، وخابت أمنيته .

          وهذا يوسف - عليه السلام - قد أوخذ بقوله لأحد صاحبي السجن : اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين [ يوسف : 42 ] .

          قيل : أنسي يوسف ذكر الله .

          وقيل : أنسي صاحبه أن يذكره لسيده الملك ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لولا كلمة يوسف ما لبث في السجن ما لبث .

          قال ابن دينار : لما قال ذلك يوسف قيل له : اتخذت من دوني وكيلا ، لأطيلن حبسك . فقال : يا رب ، أنسى قلبي كثرة البلوى .

          وقال بعضهم : يؤاخذ الأنبياء بمثاقيل الذر ، لمكانتهم عنده ، ويجاوز عن سائر الخلق لقلة مبالاته بهم في أضعاف ما أتوا به من سوء الأدب .

          وقد قال المحتج للفرقة الأولى على سياق ما قلناه : إذا كان الأنبياء يؤاخذون بهذا مما لا يؤاخذ به غيرهم من السهو ، والنسيان وما ذكرته ، وحالهم أرفع فحالهم إذا في هذا أسوأ حالا من غيرهم .

          فاعلم أكرمك الله أنا لا نثبت لك [ ص: 507 ] المؤاخذة في هذا على حد مؤاخذة غيرهم ، بل نقول : إنهم يؤاخذون بذلك في الدنيا ، ليكون ذلك زيادة في درجاتهم ، ويبتلون بذلك ، ليكون استشعارهم له سببا لمنماة رتبهم ، كما قال : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ طه : 122 ] .

          وقال لداود : فغفرنا له ذلك [ ص : 35 ] الآية .

          وقال بعد قول موسى : تبت إليك إني اصطفيتك على الناس [ الأعراف : 144 ] الآية . .

          وقال بعد ذكر فتنة سليمان وإنابته : فسخرنا له الريح [ ص : 36 ] - إلى - وحسن مآب [ ص : 40 ] .

          وقال بعض المتكلمين : زلات الأنبياء في الظاهر زلات ، وفي الحقيقة كرامات ، وزلف ، وأشار إلى نحو مما قدمناه .

          وأيضا فلينبه غيرهم من البشر منهم ، أو ممن ليس في درجتهم بمؤاخذتهم بذلك ، فيستشعروا الحذر ، ويعتقدوا المحاسبة ليلتزموا الشكر على النعم ، ويعدوا الصبر على المحن بملاحظة ما وقع بأهل هذا النصاب الرفيع المعصوم ، فكيف بمن سواهم ، ولهذا قال صالح المري : ذكر داود بسطة للتوابين .

          قال ابن عطاء : لم يكن ما نص الله - تعالى - عليه من قضية صاحب الحوت نقصا له ، ولكن استزادة من نبينا - صلى الله عليه وسلم - .

          وأيضا فيقال لهم : فإنكم ، ومن وافقكم تقولون بغفران الصغائر باجتناب الكبائر .

          ولا خلاف في عصمة الأنبياء من الكبائر ، فما جوزتم من وقوع الصغائر عليهم هي مغفورة على هذا ، فما معنى المؤاخذة بها إذا عندكم ، وخوف الأنبياء ، وتوبتهم منها ، وهي مغفورة لو كانت ؟ فما أجابوا به فهو جوابنا عن المؤاخذة بأعمال السهو والتأويل .

          وقد قيل : إن كثرة استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتوبته ، وغيره من الأنبياء على وجه ملازمة الخضوع والعبودية والاعتراف بالتقصير ، شكرا لله على نعمه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أمن من المؤاخذة مما تقدم وتأخر : أفلا أكون عبدا شكورا .

          وقال : إني أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .

          قال الحارث بن أسد : خوف الملائكة والأنبياء خوف إعظام وتعبد لله لأنهم آمنون .

          وقيل : فعلوا ذلك ليقتدى بهم ، وتستن بهم أممهم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا .

          وأيضا فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر [ ص: 508 ] لطيفا أشار إليه بعض العلماء ، وهو استدعاء محبة الله ، قال الله - تعالى - : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] .

          فإحداث الرسل والأنبياء الاستغفار والتوبة والإنابة والأوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله ! ، والاستغفار فيه معنى التوبة ، وقد قال الله لنبيه بعد أن غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [ التوبة : 117 ] الآية .

          وقال - تعالى - : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ النصر : 3 ] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية