الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 239 ] آ . (71) قوله تعالى : إذ قال : يجوز أن تكون " إذ " معمولة لـ " نبأ " ، ويجوز أن تكون بدلا من " نبأ " بدل اشتمال . وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من " نبأ " وليس بظاهر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ " اتل " لفساده ، إذ " اتل " مستقبل ، و " إذا " ماض ، و " لقومه " اللام : إما للتبليغ وهو الظاهر ، وإما للعلة وليس بظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : كبر عليكم مقامي من باب الإسناد المجازي كقولهم : " ثقل علي ظله " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وأبو الجوزاء " مقامي " بضم الميم ، و " المقام " بالفتح مكان القيام ، وبالضم مكان الإقامة أو الإقامة نفسها . وقال ابن عطية : " ولم يقرأ هنا بضم الميم " كأنه لم يطلع على قراءة هؤلاء الآباء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فعلى الله جواب الشرط .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فأجمعوا عطف على الجواب ، ولم يذكر أبو البقاء غيره . واستشكل عليه أنه متوكل على الله دائما كبر عليهم مقامه أو لم يكبر . وقيل : جواب الشرط قوله " فأجمعوا " وقوله فعلى الله توكلت جملة اعتراضية بين الشرط وجوابه ، وهو كقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      2606 - إما تريني قد نحلت ومن يكن غرضا لأطراف الأسنة ينحل     فلرب أبلج مثل ثقلك بادن
                                                                                                                                                                                                                                      ضخم على ظهر الجواد مهبل

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 240 ] وقيل : الجواب محذوف ، أي : فافعلوا ما شئتم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة : " فأجمعوا " أمرا من " أجمع " بهمزة القطع يقال : أجمع في المعاني ، وجمع في الأعيان ، فيقال : أجمعت أمري وجمعت الجيش ، هذا هو الأكثر . قال الحارث بن حلزة :


                                                                                                                                                                                                                                      2607 - أجمعوا أمرهم بليل فلما     أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2608 - يا ليت شعري والمنى لا تنفع     هل أغدون يوما وأمري مجمع

                                                                                                                                                                                                                                      وهل أجمع متعد بنفسه أو بحرف جر ثم حذف اتساعا ؟ فقال أبو البقاء : " من قولك " أجمعت على الأمر : إذا عزمت عليه ، إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل إليه . وقيل : هو متعد بنفسه في الأصل " وأنشد قول الحارث . وقال أبو فيد السدوسي : " أجمعت الأمر " أفصح من أجمعت عليه " وقال أبو الهيثم : " أجمع أمره جعله مجموعا بعدما كان متفرقا " قال : " وتفرقته أن يقول مرة افعل كذا ، ومرة افعل كذا ، وإذا عزم على أمر واحد فقد جمعه أي : جعله جميعا ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بـ " على " فقيل : أجمعت على الأمر أي : عزمت عليه ، والأصل : أجمعت الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة : " وشركاءكم " نصبا وفيه أوجه ، أحدها : أنه معطوف على " أمركم " بتقدير حذف مضاف ، أي : وأمر شركائكم كقوله : واسأل القرية ، ودل على ذلك ما قدمته من أن " أجمع " للمعاني . والثاني : أنه [ ص: 241 ] عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف ، قيل : لأنه يقال أيضا : أجمعت شركائي . الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل لائق ، أي : وأجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة . وقيل : تقديره : وادعوا ، وكذلك هي في مصحف أبي " وادعوا " فأضمر فعلا لائقا كقوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان ، أي : واعتقدوا الإيمان ، ومثله قول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2609 - فعلفتها تبنا وماء باردا     حتى شتت همالة عيناها

                                                                                                                                                                                                                                      وكقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2610 - يا ليت زوجك قد غدا     متقلدا سيفا ورمحا

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2611 - إذا ما الغانيات برزن يوما     وزججن الحواجب والعيونا

                                                                                                                                                                                                                                      يريد : ومعتقلا رمحا ، وكحلن العيونا . وقد تقدم أن في هذه الأماكن غير هذا التخريج . الرابع : أنه مفعول معه ، أي : مع " شركائكم " قال الفارسي : " وقد ينصب الشركاء بواو مع ، كما قالوا : جاء البرد والطيالسة " ، ولم يذكر الزمخشري غير قول أبي علي . قال الشيخ : " وينبغي أن يكون هذا التخريج على أنه مفعول معه من الفاعل ، وهو الضمير في " فأجمعوا " لا من المفعول الذي هو " أمركم " وذلك على أشهر الاستعمالين ، [ ص: 242 ] لأنه يقال : " أجمع الشركاء أمرهم ، ولا يقال : " جمع الشركاء أمرهم " إلا قليلا ، قلت : يعني أنه إذا جعلناه مفعولا معه من الفاعل كان جائزا بلا خلاف ، لأن من النحويين من اشترط في صحة نصب المفعول معه أن يصلح عطفه على ما قبله ، فإن لم يصلح عطفه لم يصح نصبه مفعولا معه ، فلو جعلناه من المفعول لم يجز على المشهور ، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله ، إذ لا يقال : أجمعت شركائي ، بل جمعت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الزهري والأعمش والأعرج والجحدري وأبو رجاء ويعقوب والأصمعي عن نافع " فاجمعوا " بوصل الألف وفتح الميم من جمع يجمع ، و " شركاءكم " على هذه القراءة يتضح نصبه نسقا على ما قبله ، ويجوز فيه ما تقدم في القراءة الأولى من الأوجه . قال صاحب " اللوامح " : " أجمعت الأمر : أي : جعلته جميعا ، وجمعت الأموال جمعا ، فكان الإجماع في الأحداث والجمع في الأعيان ، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر ، وفي التنزيل : فجمع كيده . قلت : وقد اختلف القراء في قوله تعالى : فأجمعوا كيدكم ، فقرأ الستة بقطع الهمزة ، جعلوه من أجمع وهو موافق لما قيل : " إن " أجمع " في المعاني . وقرأ أبو عمرو وحده " فاجمعوا " بوصل الألف ، وقد اتفقوا على قوله " فجمع كيده ثم أتى " فإنه من الثلاثي ، مع أنه متسلط على معنى لا عين . ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرباعي فقال في قراءة أبي عمرو من جمع يجمع ضد فرق يفرق ، وجعل قراءة الباقين من " أجمع أمره " إذا أحكمه وعزم عليه ، ومنه قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 243 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2612 - يا ليت شعري والمنى لا تنفع     هل أغدون يوما وأمري مجمع

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى : فاجمعوا على كيدكم ، فحذف حرف الجر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وسلام ويعقوب " وشركاؤكم " رفعا . وفيه تخريجان ، أحدهما : أنه نسق على الضمير المرفوع بأجمعوا قبله ، وجاز ذلك إذ الفصل بالمفعول سوغ العطف ، والثاني : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وشذت فرقة فقرأت : " وشركائكم " بالخفض ووجهت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورا على حاله كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2613 - أكل امرئ تحسبين أمرأ     ونار توقد بالليل نارا

                                                                                                                                                                                                                                      أي : وكل نار ، فتقدير الآية : وأمر شركائكم ، فحذف الأمر وأبقى ما بعده على حاله ، ومن رأى برأي الكوفيين جوز عطفه على الضمير في " أمركم " من غير تأويل ، وقد تقدم ما فيه من المذاهب أعني العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : غمة يقال : غم وغمة نحو كرب وكربة . قال أبو الهيثم : " هو من قولهم : " غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير . قال طرفة ابن العبد .


                                                                                                                                                                                                                                      2614 - لعمرك ما أمري علي بغمة     نهاري ولا ليلي علي بسرمد

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الليث : " يقال : هو في غمة من أمره إذا لم يتبين له .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 244 ] قوله : ثم اقضوا مفعول " اقضوا " محذوف ، أي : اقضوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه كقوله : وقضينا إليه ذلك الأمر فعداه لمفعول صريح . وقرأ السري " ثم أفضوا " بقطع الهمزة والفاء ، من أفضى يفضي إذا انتهى ، يقال : أفضيت إليك ، قال تعالى : وقد أفضى بعضكم إلى بعض فالمعنى : ثم افضوا إلى سركم ، أي : انتهوا به إلي . وقيل : معناه : أسرعوا به إلي . وقيل : هو من أفضى ، أي : خرج إلى الفضاء ، أي : فأصحروا به إلي ، وأبرزوه لي كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2615 - أبى الضيم والنعمان يحرق نابه     عليه فأفضى والسيوف معاقله

                                                                                                                                                                                                                                      ولام الفضاء واو ؛ لأنه من فضا يفضو ، أي : اتسع . وقوله : " لا تنظرون " ، أي : لا تؤخرون من النظرة وهي التأخير .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية