الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] ( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) .

( فانطلقا ) ، أي : موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع . وقيل : كان موسى قد صرفه ورده إلى بني إسرائيل . والألف واللام في ( السفينة ) لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة . وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال ، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا : " فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ( لتغرق أهلها ) إلى قوله ( عسرا ) " قال : وقال رسول الله : " وكان الأول من موسى نسيانا قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر " .

واللام في ( لتغرق أهلها ) . قيل : لام العاقبة . وقيل : لام العلة . وقرأ زيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ( ليغرق ) بفتح الياء والراء وسكون الغين ( أهلها ) بالرفع . وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام ( أهلها ) . وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلا أنهما فتحا الغين وشددا الراء .

ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى فقال ( لا تؤاخذني بما نسيت ) [ ص: 150 ] والظاهر حمل النسيان على وضعه . وقد قال عليه السلام : " كانت الأولى من موسى نسيانا " والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولا وهذا قول الجمهور . وعن أبي بن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام . قال الزمخشري : أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان ، توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار ، وهو من معاريض الكلام التي ينفى بها الكذب مع التوصل إلى الغرض ، كقول إبراهيم عليه السلام : هذه أختي وإني سقيم . أو أراد بالنسيان الترك ، أي : ( لا تؤاخذني ) بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى .

وقد بين ابن عطية كلام أبي بكلام طويل يوقف عليه في كتابه ، ولا يعتمد إلا قول الرسول : " كانت الأولى من موسى نسيانا " .

( ولا ترهقني ) لا تغشني وتكلفني ( من أمري ) وهو اتباعك ( عسرا ) ، أي : شيئا صعبا ، بل سهل علي في متابعتك بترك المناقشة . وقرأ أبو جعفر ( عسرا ) بضم السين حيث وقع فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها ، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر ( غلاما ) يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه . وقيل : رضه بحجر . وقيل : ذبحه . وقيل : فتل عنقه . وقيل : ضرب برأسه الحائط . قيل : وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال : ( أقتلت نفسا زكية ) . وقيل : كان الغلام بالغا شابا ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام . ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج :


شفاها من الداء الذي قد أصابها غلام إذا هز القناة سقاها



وقال آخر :


تلق ذباب السيف عني فإنني     غلام إذا هوجيت لست بشاعر



وقيل : أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق ، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوزا تسمية للشيء باسم ما يئول إليه . ( واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه ) ولم يرد شيء من ذلك في الحديث . وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه .

وحكى القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى - عليه السلام - لما قال للخضر ( أقتلت نفسا زكية ) غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبدا .

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل ( خرقها ) بغير فاء و ( فقتله ) بالفاء ؟ قلت : جعل ( خرقها ) جزاء للشرط ، وجعل ( قتله ) من جملة الشرط معطوفا عليه ، والجزاء قال أقتلت . فإن قلت : فلم خولف بينهما ؟ قلت : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى .

ومعنى ( زكية ) طاهرة من الذنوب ، ووصفها بهذا الوصف ؛ لأنه لم يرها أذنبت ، قيل أو لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث . وقوله ( بغير نفس ) يرده ويدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس . وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه ، وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو ( زاكية ) بالألف . وقرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون ( زكية ) بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من ( زاكية ) لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة .

وقرأ الجمهور ( نكرا ) بإسكان الكاف . وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوبا . والنكر قيل : أقل من الإمر ؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة . وقيل : [ ص: 151 ] معناه : شيئا أنكر من الأول ، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه . وفي قوله ( لك ) زجر وإغلاظ ليس في الأول ؛ لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان .

التالي السابق


الخدمات العلمية