الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما الحلف على الإظهار والإفشاء والإعلان والكتمان والإسرار والإخفاء والإخبار والبشارة والقراءة ونحوها إذا حلف لا أظهر سرك لفلان أو لا أفشي ، أو حلف ليكتمن سره أو ليسترنه أو ليخفينه فكلم فلانا بسره أو كتب إليه فبلغه الكتاب ، أو أرسل إليه رسولا فبلغه الرسالة ، أو سأله فلان عن ذلك .

                                                                                                                                وقال أكان من الأمر كذا فأشار الحالف برأسه أي نعم فهو حانث لوجود شرط الحنث وهو إظهار السر إذ الإظهار إثبات الظهور وذلك لا يقف على العبارة بل يحصل بالدلالة والإشارة .

                                                                                                                                ألا ترى أنه يقال ظهر لي اعتقاد فلان إذا فعل ما يدل على اعتقاده وكذا الإشارة بالرأس عقيب السؤال يثبت به ظهور المشار إليه فكان إظهارا ، فإن نوى به الكلام أو الكتاب دون الإيماء دين في ذلك لأنه نوى تخصيص ما في لفظه فيدين فيما بينه وبين الله - عز وجل - .

                                                                                                                                وكذلك لو حلف لا يعلم فلانا بمكان فلان فسأله المحلوف عليه أفلان في موضع كذا وكذا ؟ فأومأ برأسه أي نعم يحنث لوجود شرط الحنث وهو الإعلام إذ هو إثبات العلم الذي يحد بأنه صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به فإن نوى به الإخبار بالكلام أو بالكتاب يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى تخصيص العموم وإنه جائز ، وإن كان خلاف الظاهر فيصدق فيما بينه وبين الله [ ص: 54 ] تعالى ولا يصدق في القضاء لمخالفته الظاهر ، ولو كان مكان الإعلام إخبار بأن حلف لا يخبر فلانا بمكان فلان لا يحنث إلا بالكلام أو بالكتاب أو بالرسالة ، ولو أومأ برأسه لا يحنث .

                                                                                                                                وكذا لو ذهب به حتى أوقفه على رأس فلان لا يحنث لأن شرط الحنث هو الإخبار ، والإشارة ليست بخبر وكذا الإيقاف على رأسه إذ الخبر من أقسام الكلام .

                                                                                                                                ألا ترى أنهم قالوا أقسام الكلام أربعة : أمر ونهي وخبر واستخبار ، ويحد بأنه كلام عري عن معنى التكليف والإشارة ليست بكلام فلم تكن خبرا .

                                                                                                                                والإيقاف على رأسه من باب الإعلام لا من باب الخبر ، وكل خبر إعلام وليس كل إعلام خبرا ، والدليل عليه أن الكتاب إذا قرئ على إنسان .

                                                                                                                                وقيل له أهو كما كتب فيه فأشار برأسه أي نعم لا يصير مقرا ، وكل إقرار إخبار .

                                                                                                                                وكذا لو حلف لا يقر لفلان بمال فقيل له ألفلان عليك ألف درهم ؟ فأشار برأسه أي نعم لا يكون ذلك منه إقرارا .

                                                                                                                                وكذا إذا قرأ على إنسان كتاب الأخبار فقيل له أهو كما قرأت عليك ؟ فأومأ برأسه أي نعم لا يصير مقرا ، وكل إقرار إخبار .

                                                                                                                                وكذا إذا قرأ على إنسان كتاب الأخبار فقيل له أهو كما قرأت عليك ؟ فأومأ برأسه أي نعم ليس له أن يروي عنه بحدثنا ولا بأخبرنا فدل أن الإيماء ليس بإخبار ، ولو نوى بالإخبار الإظهار أو الإعلام يحنث إذا أومأ لأنه جعله مجازا عن الإظهار لمناسبة بينهما ، وفيه تشديد على نفسه فيصدق ، ثم في يمين الإظهار والإعلام لو أراد الحالف أن لا يحنث ويحصل العلم والظهور ينبغي أن يقال له إنا نعد عليك أمكنة أو أشياء من الأسرار فإن لم تتكلم بمكان فلان ولا سره فقل لنا ليس كما تقولون .

                                                                                                                                وإن تكلمنا بسره أو بمكانه فاسكت ففعل ذلك لا يحنث لانعدام شرط الحنث وهو الإظهار والإعلام لما ذكرنا أن الإظهار هو إثبات الظهور ، والإعلام هو إثبات العلم ولم يوجد ، لأن الظهور والعلم حصل من غير صنعه ، وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة ، والقصة مشهورة ، وكذلك لو حلف لا يدلهم ففعل مثل ذلك فهذا ليس بدلالة لأن الحالف حلف على فعل نفسه وهو الدلالة لا على فعلهم وهو الاستدلال ، والموجود ههنا فعلهم لا فعله فلم يوجد شرط الحنث فلا يحنث ، ولو أومأ إليهم برأسه أو أشار إليهم كان ذلك دلالة إلا أن يعني بالدلالة الخبر باللسان أو بالكتاب فيكون على ما عنى لأن اسم الدلالة يقع على الفعل والقول لوجود معناها فيهما ، فإذا نوى به أحدهما فقد نوى تخصيص ما في لفظه فيصدق ، والبشارة حكمها حكم الخبر في أنها لا تتناول إلا الكلام أو الكتاب لأنها خبر إلا أنها خبر موصوف بصفة وهو الخبر الذي يؤثر في بشرة وجه المخبر له بإظهار أثر السرور ، وقد يستعمل فيما يؤثر في بشرته بإظهار أثر الحزن مجازا كما في قوله - عز وجل - : { فبشرهم بعذاب أليم } لكن عند الإطلاق يقع على الأول ، وإنما يقع على الثاني بالقرينة .

                                                                                                                                وكذا الإقرار بأن حلف أن لا يقر لفلان بحقه فهو على مثل الخبر ، ولا يحنث بالإشارة لأن الإقرار إخبار عن الماضي ، ثم يقع الفرق بين البشارة والإعلام وبين الإخبار من حيث إن الإعلام والبشارة يشترط لثبوتها الصدق ، فلا يثبتان بالكذب ولا بما علمه المخاطب قبل الإعلام والبشارة ، سواء وصل ذلك بحرف الباء أو بكلمة إن حتى إنه لو قال لغيره إن أعلمتني أن فلانا قدم أو قال إن أعلمتني بقدوم فلان فأخبره كاذبا لا يحنث لأن الإعلام إثبات العلم والكذب لا يفيد العلم .

                                                                                                                                وكذا لو كان المخاطب عالما بقدومه لأن إثبات الثابت محال .

                                                                                                                                وكذا في البشارة لأنها اسم لخبر سار والكذب لا يسر ، وإذا كان عالما بقدومه فالسرور كان حاصلا وتحصيل الحاصل مستحيل .

                                                                                                                                وأما الخبر فإن وصله بحرف الباء بأن قال : إن أخبرتني بقدوم فلان فالجواب فيه وفي الإعلام والبشارة سواء ، وإن وصله بكلمة إن بأن قال : إن أخبرتني أن فلانا قدم فأخبره كاذبا أو أخبره بعدما كان علم المخاطب بقدومه بإخبار غيره يحنث ، والفرق يعرف في الجامع الكبير ، ولو حلف لا يتكلم بسر فلان ولا بمكانه فكتب أو أشار لا يحنث لأن الكتابة والإشارة ليست بكلام وإنما تقوم مقامه .

                                                                                                                                ألا ترى أن الله تعالى أنزل إلينا كتابا ؟ ولا يقال إن الله تعالى في العرف كلمنا ؟ فإن سئل عنه فقال نعم فقد تكلم ; لأن قوله نعم لا يستقل بنفسه ويضمر فيه السؤال كما في قوله تعالى - { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فقد أتي بكلام دال على المراد ، ولو حلف لا يستخدم فلانة فاستخدمها بكلام أو أمرها بشيء من خدمة أو أشار إليها بالخدمة فقد استخدمها فهو حانث لأن الاستخدام طلب الخدمة وقد وجد ، ولو كانت هذه [ ص: 55 ] الأيمان كلها وهو صحيح ثم خرس فصار لا يقدر على الكلام كانت أيمانه في هذا كله على الإشارة والكتاب في جميع ما وصفنا إلا في خصلة واحدة وهي أن يحلف أن لا يتكلم بسر فلان فلا يحنث إلا بالتكلم لأن الكلام العرفي اسم لحروف منظومة تدل على معنى مفهوم وذلك لو وجد في الإشارة والخبر والإفشاء والإظهار من الأخرس إنما يكون بالإشارة فيحنث بهما وكل شيء حنث فيه من هذه الأشياء بالإشارة فقال أشرت وأنا لا أريد الذي حلفت عليه فإن كان فعل ذلك جوابا بالشيء مما سئل عنه لم يصدق في القضاء لأن الإشارة فيها احتمال فإن كان هناك دلالة حال زال الاحتمال وإن لم يكن يرجع إلى نيته .

                                                                                                                                وذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد إذا قال : والله لا أقول كذا لفلان فهو عندي مثل الخبر والبشارة .

                                                                                                                                ألا ترى أن رجلا لو قال : والله لا أقول لفلان صبحك الله بخير ثم أرسل إليه رسولا فقال قل لفلان يقول لك فلان صبحك الله بخير فإنه حانث .

                                                                                                                                قال ألا ترى أن القائل هو المرسل وأن الرسول هو القائل ذلك لفلان ؟ ولو كان هو هذا الذي حلف عليه لم يحنث .

                                                                                                                                ألا ترى أن الرجل يقول : قال الله - عز وجل - لنا في كتابه الكريم كذا ؟ ولو قال : والله لا أكلم فلانا بهذا الأمر فهذا على الكلام بعينه لا يحنث بكتاب ولا رسول .

                                                                                                                                ألا ترى أنك لا تقول كلمنا الله - تعالى - بكذا ؟ وأما الحديث فهو على المشافهة لأن ما سوى الكلام ليس بحديث .

                                                                                                                                ولو قال أي عبيدي يبشرني بكذا فهو حر فبشروه جميعا عتقوا لوجود البشارة من كل واحد منهم لوجود حد البشارة وهو ما ذكرناه ، ولو بشره واحد بعد واحد لم يعتق الثاني لأنه ليس بمبشر وإنما هو مخبر .

                                                                                                                                ألا ترى أن خبر الثاني لا يؤثر في وجه المخبر ، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم { من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد } وأخبره بذلك أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما فقال رضي الله عنه : بشرني به أبو بكر ثم أخبرني به عمر رضي الله عنهما ، فإن أرسل إليه أحدهم رسولا فإن أضاف الرسول الخبر إلى المرسل فقال إن عبدك فلانا يخبرك بكذا عتق العبد لأن المرسل هو المبشر ، وإن أخبر الرسول ولم يضف ذلك إلى العبد لم يعتق العبد لأن البشارة منه لا من المرسل ، ولو حلف لا يكتب إلى فلان فأمر غيره فكتب فقد روى هشام عن محمد أنه قال سألني هارون الرشيد أمير المؤمنين - أصلحه الله - عن هذا فقلت : إن كان سلطانا يأمر بالكتاب ولا يكاد هو يكتب فإنه يحنث لأنه إذا كان لا يباشر الكتابة بنفسه عادة بل يستكتب غيره فيمينه تقع على العادة وهو الأمر بالكتابة .

                                                                                                                                قال هشام : قلت لمحمد فما تقول إذا حلف لا يقرأ لفلان كتابا فنظر في كتابه حتى أتى آخره وفهمه ولم ينطق به ؟ قال : سأل هارون أبا يوسف عن ذلك وقد كان ابتلي بشيء منه فقال لا يحنث ، ولا أرى أنا ذلك ، وقد روى خلف بن أيوب وداود بن رشيد وابن رستم أيضا عن محمد أنه يحنث ، فأبو يوسف اعتبر الحقيقة لأنه لم يقرأه حقيقة إذ القراءة لا تكون إلا بتحريك اللسان بالحروف ولم يوجد .

                                                                                                                                ألا ترى أن المصلي القادر على القراءة إذا لم يحرك لسانه بالحروف لا تجوز صلاته .

                                                                                                                                وكذا لو حلف لا يقرأ سورة من القرآن فنظر فيها وفهمها ولم يحرك لسانه لم يحنث ، ومحمد اعتبر العرف والعادة ، ومعاني كلام الناس وهم إنما يريدون بمثل هذه اليمين الامتناع عن الوقوف على ما في الكتاب وقد وقف على ما فيه فيحنث .

                                                                                                                                قال هشام عن محمد : إذا قرأ الكتاب إلا سطرا قال كأنه قرأه ، قلت : فإن قرأ نصفه قال لا يعني لم يقرأه .

                                                                                                                                قال محمد : إذا قرأ بعضه فإن أتى على المعاني التي يحتاج إليها فكأنه قد قرأه لأن تلك المعاني هي المقصودة بالكتاب ، ولو حلف لا يقرأ سورة فترك منها حرفا حنث ، وإن ترك آية طويلة لم يحنث لأنه يسمى قارئا للسورة مع ترك حرف منها ولا يسمى مع ترك ما هو في حكم الآية الطويلة .

                                                                                                                                وروى ابن رستم عن محمد أنه قال : لا أبلغك مثل لا أخبرك ، وكذلك أذكرك بشيء أو لا أذكرك شيئا ، فإنه يحنث بالكتاب ، .

                                                                                                                                فأما الذكر والإخبار والإعلام والإبلاغ على الكتاب والقول والكلام على الكتاب أيضا قال عمر وسألت محمدا عن رجل حلف لا يتمثل بشعر فتمثل بنصف بيت قال : لا يحنث .

                                                                                                                                قال : قلت : فإن كان نصف البيت من شعر آخر ؟ قال لا أدري ما هذا لا يحنث لأن الشعر ما ظهر فيه النظم وذلك لا يكون إلا في بيت .

                                                                                                                                قال : وسألت محمدا عن رجل فارسي حلف أن يقرأ ( الحمد ) بالعربية فقرأها فلحن قال لا يحنث ، وإن حلف رجل فصيح أن يقرأ ( الحمد ) بالعربية فقرأها فلحن [ ص: 56 ] حنث إذا لم يكن لأحدهما نية لأن العربي إنما أراد بيمينه أن يقرأ بموضوع العرب وذلك المعرب دون الملحون ، .

                                                                                                                                فأما العجمي فإنما يريد اللغة العربية دون العجمية والملحون يعد من العربية والله - عز وجل - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية