الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 246 ] قد قدمنا معاني " الأمة " في القرآن في سورة " هود " . والمراد بالأمة هنا : الشريعة والملة ، والمعنى : وأن هذه شريعتكم شريعة واحدة ، وهي توحيد الله على الوجه الأكمل من جميع الجهات ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه بإخلاص في ذلك ، على حسب ما شرعه لخلقه وأنا ربكم فاعبدون [ 21 \ 92 ] أي : وحدي ، والمعنى دينكم واحد وربكم واحد ، فلم تختلفون وتقطعوا أمرهم بينهم [ 21 \ 93 ] أي : تفرقوا في الدين وكانوا شيعا ؛ فمنهم يهودي ، ومنهم نصراني ، ومنهم عابد وثن إلى غير ذلك من الفرق المختلفة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين بقوله : كل إلينا راجعون أنهم جميعهم راجعون إليه يوم القيامة ، وسيجازيهم بما فعلوا . وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة وتقطعوا أمرهم بينهم المعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه ، فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب ؛ تمثيلا لاختلافهم فيه ، وصيرورتهم فرقا شتى . ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر الآية أن " تقطع " متعدية إلى المفعول ومفعولها " أمرهم " ومعنى تقطعوه أنهم جعلوه قطعا كما ذكرنا . وقال القرطبي : قال الأزهري : وتقطعوا أمرهم أي : تفرقوا في أمرهم ، فنصب " أمرهم " بحذف " في " ومن إطلاق الأمة بمعنى الشريعة والدين كما في هذه الآية : قوله تعالى عن الكفار : إنا وجدنا آباءنا على أمة [ 43 \ 23 ] أي : على شريعة وملة ودين . ومن ذلك قول نابغة ذبيان :


                                                                                                                                                                                                                                      حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى قوله : " وهل يأثمن ذو أمة . . إلخ " أن صاحب الدين لا يرتكب الإثم طائعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره - جل وعلا - في هاتين الآيتين الكريمتين : من أن الدين واحد ، والرب واحد فلا داعي للاختلاف . وأنهم مع ذلك اختلفوا أو صاروا فرقا أوضحه في سورة " قد أفلح المؤمنون " وزاد أن كل حزب من الأحزاب المختلفة فرحون بما عندهم . وذلك في قوله تعالى : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 23 \ 51 - 54 ] [ ص: 247 ] وقوله في هذه الآية : زبرا أي : قطعا كزبر الحديد والفضة أي : قطعها . وقوله كل حزب بما لديهم فرحون أي : كل فرقة من هؤلاء الفرق الضالين المختلفين المتقطعين دينهم قطعا فرحون بباطلهم ، مطمئنون إليه ، معتقدون أنه هو الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بين - جل وعلا - في غير هذا الموضع : أن ما فرحوا به واطمأنوا إليه باطل ، كما قال تعالى في سورة " المؤمن " : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 83 - 84 ] وقال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [ 6 \ 159 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن هذه " هذه " اسم " إن " وخبرها أمتكم . وقوله أمة واحدة حال كما هو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية