الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 249 ] آ . (81) قوله تعالى : ما جئتم به السحر : قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة " آلسحر " بهمزة الاستفهام ، وبعدها ألف محضة ، وهي بدل عن همزة الوصل الداخلة على لام التعريف ، ويجوز أن تسهل بين بين ، وقد تقدم تحقيق هذين الوجهين في قوله : ءآلذكرين وهي قراءة مجاهد وأصحابه وأبي جعفر . وقرأ باقي السبعة بهمزة وصل تسقط في الدرج . فأما قراءة أبي عمرو ففيها أوجه ، أحدها : أن " ما " استفهامية في محل رفع بالابتداء ، و " جئتم به " الخبر ، والتقدير : أي شيء جئتم ، كأنه استفهام إنكار وتقليل للشيء المجاء به . و " السحر " بدل من اسم الاستفهام ، ولذلك أعيد معه أداته لما قررته في كتب النحو . الثاني : أن يكون " السحر " مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : أهو السحر . الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره : السحر هو . ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وذكر الثاني مكي ، وفيهما بعد . الرابع : أن تكون " ما " موصولة بمعنى الذي ، وجئتم به صلتها ، والموصول في محل رفع بالابتداء ، و " السحر " على وجهيه من كونه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذي جئتم به أهو السحر ، أو الذي جئتم به السحر هو ، وهذا الضمير هو الرابط كقولك : الذي جاءك أزيد هو ، قاله الشيخ .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 250 ] قلت : قد منع مكي أن تكون " ما " موصولة على قراءة أبي عمرو فقال : " وقد قرأ أبو عمرو " آلسحر " بالمد ، فعلى هذه القراءة تكون " ما " استفهاما مبتدأ ، و " جئتم به " الخبر ، و " السحر " خبر ابتداء محذوف ، أي : أهو السحر ، ولا يجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي على هذه القراءة إذا لا خبر لها " . قلت : ليس كما ذكر ، بل خبرها الجملة المقدر أحد جزأيها ، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم يجيزا كونها موصولة إلا في قراءة غير أبي عمرو ، لكنهما لم يتعرضا لعدم جوازه .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن تكون " ما " استفهامية في محل نصب بفعل مقدر بعدها لأن لها صدر الكلام ، و " جئتم به " مفسر لذلك الفعل المقدر ، وتكون المسألة حينئذ من باب الاشتغال ، والتقدير : أي شيء أتيتم جئتم به ، و " السحر " على ما تقدم ، ولو قرئ بنصب " السحر " على أنه بدل من " ما " بهذا التقدير لكان له وجه ، لكنه لم يقرأ به فيما علمت ، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء من جواز نصبه لمدرك آخر على أنها قراءة منقولة [عن الفراء ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الباقين ففيها أوجه أيضا ، أحدها : أن تكون " ما " بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء ، و " جئتم به " صلة وعائده ، و " السحر " خبره ، والتقدير : الذي جئتم به السحر ، ويؤيد هذا التقدير قراءة أبي وما في مصحفه : ( ما أتيتم به سحر ) وقراءة عبد الله والأعمش ما جئتم به السحر .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن تكون " ما " استفهامية في محل نصب بإضمار فعل على ما تقرر ، و " السحر " خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ مضمر الخبر . الثالث : أن تكون " ما " [ ص: 251 ] في محل رفع بالابتداء ، و " السحر " على ما تقدم من كونه مبتدأ أو خبرا ، والجملة خبر " ما " الاستفهامية . قال الشيخ - بعدما ذكر الوجه الأول - : " ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التحقير والتقليل لما جاءوا به ، و " السحر " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السحر " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : ظاهر عبارته أنه لم يره غيره ، حيث قال " عندي " ، وهذا قد جوزه أبو البقاء ومكي . قال أبو البقاء : - لما ذكر قراءة غير أبي عمرو - " ويقرأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان " ، ثم قال : " ويجوز أن تكون " ما " استفهاما ، و " السحر " خبر مبتدأ محذوف " . وقال مكي في قراءة غير أبي عمرو بعد ذكره كون " ما " بمعنى الذي : " ويجوز أن تكون " ما " رفعا بالابتداء وهي استفهام ، و " جئتم به " الخبر ، و " السحر " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السحر ، ويجوز أن تكون " ما " في موضع نصب على إضمار فعل بعد " ما " تقديره : أي شيء جئتم [به] ، و " السحر " خبر ابتداء محذوف " .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن تكون هذه القراءة كقراءة أبي عمرو في المعنى ، أي : إنها على نية الاستفهام ، ولكن حذفت أداته للعلم بها ، قال أبو البقاء : " ويقرأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه استفهام في المعنى أيضا : وحذفت الهمزة للعلم بها " ، وعلى هذا الذي ذكره يكون الإعراب على ما تقدم . واعلم أنك إذا جعلت " ما " موصولة بمعنى الذي امتنع نصبها بفعل مقدر على الاشتغال . قال مكي : " ولا يجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي في [ ص: 252 ] موضع نصب لأن ما بعدها صلتها ، والصلة لا تعمل في الموصول ، ولا يكون تفسيرا للعامل في الموصول " ، وهو كلام صحيح ، فتلخص من هذا أنها إذا كانت استفهامية جاز أن تكون في محل رفع أو نصب ، وإذا كانت موصولة تعين أن يكون محلها الرفع بالابتداء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مكي : " وأجاز الفراء نصب " السحر " ، تجعل " ما " شرطا ، وتنصب " السحر " على المصدر ، وتضمر الفاء مع " إن الله سيبطله " ، وتجعل الألف واللام في " السحر " زائدتين ، وذلك كله بعيد ، وقد أجاز علي ابن سليمان حذف الفاء من جواب الشرط في الكلام ، واستدل على جوازه بقوله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ولم يجزه غيره إلا في ضرورة شعر " . قلت : وإذا مشينا مع الفراء فتكون " ما " شرطا يراد بها المصدر ، تقديره : أي سحر جئتم به فإن الله سيبطله ، ويبين أن " ما " يراد بها السحر قوله : " السحر " ، ولكن يقلق قوله : " إن نصب " السحر " على المصدرية " ، فيكون تأويله أنه منصوب على المصدر الواقع موقع الحال ، ولذلك قدره بالنكرة ، وجعل أل مزيدة فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نقل عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف ، وهو تعريف العهد ، قال الفراء : " وإنما قال " السحر " بالألف واللام لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام " ، يعني أن النكرة قد تقدمت في قوله : إن هذا لسحر مبين ، وبهذا شرحه ابن عطية . قال ابن عطية : والتعريف هنا في " [ ص: 253 ] " السحر " أرتب لأنه قد تقدم منكرا في قولهم : " إن هذا لسحر " ، فجاء هنا بلام العهد ، كما يقال أول الرسالة " سلام عليك " . قال الشيخ : " وما ذكراه هنا في " السحر " ليس من تقدم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأن شرط هذا أن يكون المعرف بأل هو المنكر المتقدم ، ولا يكون غيره ، كقوله تعالى : كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ، وتقول : " زارني رجل فأكرمت الرجل " لما كان إياه جاز أن يؤتى بضميره بدله ، فتقول : فأكرمته ، والسحر هنا ليس هو السحر الذي في قولهم : " إن هذا لسحر " لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا والسحر الذي في قول موسى ، إنما هو سحرهم الذي جاءوا به ، فقد اختلف المدلولان ، إذ قالوا هم عن معجزة موسى ، وقال موسى عما جاءوا به ، ولذلك لا يجوز أن يؤتى هنا بالضمير بدل السحر ، فيكون عائدا على قولهم : " لسحر " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : والجواب أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدم الذكر في اللفظ ، وإن كان الثاني هو غير عين الأول في المعنى ، ولكن لما أطلق عليهما لفظ " السحر " جاز أن يقال ذلك ، ويدل على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى : والسلام علي : إن الألف واللام للعهد لتقدم ذكر السلام في قوله تعالى : وسلام عليه ، وإن كان السلام الواقع على عيسى هو غير السلام الواقع على يحيى ، لاختصاص كل سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به ، وهذا النقل المذكور عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نقله عنه مكي فيهما ، [ ص: 254 ] اللهم إلا أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان ، وليس ببعيد فإنه كلما كثر العلم اتسعت المقالات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : المفسدين من وقوع الظاهر موقع ضمير المخاطب إذ الأصل : لا يصلح عملكم ، فأبرزهم في هذه الصفة الذميمة شهادة عليهم بها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية