الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
المسألة الأولى : إذا nindex.php?page=treesubj&link=11451_11453أسلم الزوجان ، أو أحدهما ، فإن كانت المرأة كتابية لم يؤثر إسلامه في فسخ النكاح ، وكان بقاؤه كابتدائه ، وإن كانت غير كتابية ، وأسلم الزوجان معا ، فهما على النكاح سواء قبل الدخول وبعده ، وليس بين أهل العلم في هذا اختلاف .
قال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : " أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معا في حالة واحدة أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع " .
[ ص: 641 ] وقد أسلم خلق في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساؤهم ، وأقروا على أنكحتهم ، ولم يسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شروط النكاح ، ولا عن كيفيته ، وهذا أمر علم بالتواتر ، والضرورة ، فكان يقينا .
ثم قال كثير من الفقهاء : المعتبر أن يتلفظا بالإسلام تلفظا واحدا ، يكون ابتداء أحدهما مع ابتداء صاحبه ، وانتهاؤه مع انتهائه .
والصواب أن هذا غير معتبر ، ولم يدل على ذلك كتاب ولا سنة ، ولا اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك قط ، ولا اعتبره في واقعة واحدة مع كثرة من أسلم في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل يوما واحدا لرجل أسلم هو وامرأته : " تلفظا بالإسلام تلفظا واحدا لا يسبق أحدكما الآخر " ، وهل هذا إلا من التكلف الذي ألغته الشريعة ولم تعتبره ؟ وليس لهذا نظير في الشريعة ، بل إذا أسلما في المجلس الواحد فقد اجتمعا على الإسلام ، ولا يؤثر سبق أحدهما الآخر بالتلفظ به . وهذا اختيار شيخنا .
وإن أسلم أحدهما ، ثم أسلم الآخر بعده فاختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيرا .
فقالت طائفة : متى أسلمت المرأة انفسخ نكاحها منه ، سواء كانت كتابية ، أو غير كتابية ، وسواء أسلم بعدها بطرفة عين ، أو أكثر ، ولا سبيل له عليها إلا بأن يسلما معا في آن واحد ، فإن أسلم هو قبلها انفسخ نكاحها [ ص: 642 ] ساعة إسلامه ، ولو أسلمت بعده بطرفة عين ، هذا قول جماعة من التابعين وجماعة من أهل الظاهر ، وحكاه nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد بن حزم ، عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر بن عبد الله ، nindex.php?page=showalam&ids=11وعبد الله بن عباس ، nindex.php?page=showalam&ids=15743وحماد بن زيد nindex.php?page=showalam&ids=14152والحكم بن عتيبة ، nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ، nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز ، nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري ، وعدي بن عدي ، وقتادة ، nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي .
[ ص: 643 ] قلت : وحكاية ذلك عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب غلط عليه ، أو يكون رواية عنه ، فسنذكر من آثار nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خلاف ذلك مما ذكره أبو محمد ، وغيره ، فهذا قول .
وقال أبو حنيفة : أيهما أسلم قبل الآخر ، فإن كان في دار الإسلام عرض الإسلام على الذي لم يسلم ، فإن أسلما بقيا على نكاحهما ، وإن أبيا فحينئذ تقع الفرقة ، ولا تراعى العدة في ذلك .
ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة ومحمد : الفسخ هاهنا طلاق ؛ لأن الزوج ترك الإمساك بالمعروف مع القدرة عليه ، فينوب القاضي منابه في التسريح بالإحسان ، فيكون قوله كقول الزوج .
وقال أبو يوسف : لا يكون طلاقا ؛ لأنه سبب يشترك فيه الزوجان ، فلا يكون طلاقا ، كما لو ملكها أو ملكته ، فلو كانت المرأة مجوسية كانت الفرقة فسخا قولا واحدا .
قالوا : والفرق أن المجوسية ليست من أهل الطلاق بخلاف الذمية ، وإن [ ص: 644 ] كانا في دار الحرب فخرجت المرأة إلينا مسلمة ، أو معاهدة ، فساعة حصولها في دار الإسلام تقع الفرقة بينهما ، لا قبل ذلك ، فإن لم تخرج من دار الحرب ، بأن حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم هو وقعت الفرقة حينئذ ، وعليها أن تبتدئ ثلاث حيض أخر عدة منه ، وهل هذه الفرقة فسخ أو طلاق ؟
فيه عن أبي حنيفة روايتان ، وهي فسخ عند أبي يوسف ، ولو أسلم الآخر قبل مضي ثلاث حيض فهما على نكاحهما ، فهذا قول ثان .
وقال مالك : إن nindex.php?page=treesubj&link=11458_11459أسلمت المرأة ، ولم يسلم الرجل ، فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة ، وإن كان بعده فإن أسلم في عدتها فهما على نكاحهما ، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها فقد بانت منه ، فإن أسلم هو ولم تسلم هي عرض عليها الإسلام ، فإن أسلمت بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها ، سواء كان قبل الدخول أو بعده .
وقال أشهب : إنما تتعجل الفرقة إذا كان قبل الدخول ، وتقف على العدة إن كان بعد الدخول .
ثم قال ابن القاسم : إذا عقل عنها حتى مضى لها شهر وما قرب منه ، وليس بكثير وهما على نكاحهما ، والفرقة حيث وقعت فسخ .
[ ص: 645 ] وعن ابن القاسم رواية أخرى : أنها طلقة ثانية ، فهذا قول ثالث .
وقال ابن شبرمة عكس هذا ، وأنها إن أسلمت قبله وقعت الفرقة في الحين ، وإن أسلم قبلها فأسلمت في العدة فهي امرأته ، وإلا وقعت الفرقة بانقضاء العدة ، فهذا قول رابع .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ، nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ، والليث ، nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد ، nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وإسحاق : إذا nindex.php?page=treesubj&link=11453سبق أحدهما بالإسلام ، فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح ، وإن كان بعده ، فأسلم الآخر في العدة فهما على نكاحهما ، وإن [ ص: 646 ] انقضت العدة قبل إسلامه انفسخ النكاح ، فهذا قول خامس .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12341أيوب السختياني وقتادة ، كلاهما عن nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16474عبد الله بن يزيد الخطمي أن نصرانيا أسلمت امرأته ، فخيرها nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن شاءت فارقته ، وإن شاءت أقامت عليه ، ( nindex.php?page=showalam&ids=16474وعبد الله بن يزيد الخطمي هذا له صحبة ) ، وليس معناه أنها تقيم تحته ، وهو نصراني ، بل تنتظر ، وتتربص ، فمتى أسلم فهي امرأته ، ولو مكثت سنين ، فهذا قول سادس ، وهو أصح المذاهب في هذه المسألة ، وعليه تدل السنة كما سيأتي بيانه ، وهو اختيار شيخ الإسلام .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب أن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما : هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=17097مطرف بن طريف ، عن nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي ، عن علي : هو [ ص: 647 ] أحق بها ما لم تخرج من مصرها . فهذا قول سابع .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة : ثنا nindex.php?page=showalam&ids=17116معتمر بن سليمان ، عن معمر ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان ، فهذا قول ثامن .
وقال داود بن علي : إذا nindex.php?page=treesubj&link=11457أسلمت زوجة الذمي ولم يسلم فإنها تقر عنده ولكن يمنع من وطئها .
وقال شعبة : ثنا nindex.php?page=showalam&ids=15741حماد بن أبي سليمان ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي في ذمية أسلمت تحت ذمي ، فقال : تقر عنده ، وبه أفتى nindex.php?page=showalam&ids=15741حماد بن أبي سليمان .
[ ص: 648 ] قلت : ومرادهم أن العصمة باقية ، فتجب لها النفقة والسكنى ، ولكن لا سبيل له إلى وطئها ، كما يقوله الجمهور في أم ولد الذمي إذا أسلمت سواء ، فهذا قول تاسع .
ونحن نذكر مآخذ هذه المذاهب ، وما في تلك المآخذ من قوي وضعيف وما هو الأولى بالصواب .
فأما أصحاب القول الأول - وهم الذين يوقعون الفرقة بمجرد الإسلام - فلا نعلم أحدا من الصحابة قال به ألبتة ، وما حكاه nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد بن حزم ، عن عمر ، وجابر ، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس فبحسب ما فهمه من آثار رويت عنهم مطلقة ، ونحن نذكرها :
قال شعبة : أخبرني nindex.php?page=showalam&ids=11814أبو إسحاق الشيباني قال : سمعت يزيد بن علقمة يقول : إن جده وجدته كانا نصرانيين ، فأسلمت جدته ففرق nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب [ ص: 649 ] بينهما .
وليس في هذا دليل على تعجل الفرقة مطلقا بنفس الإسلام ، فلعله لم يكن دخل فيها ، أو لعله فرق بعد انقضاء العدة ، أو لعلها اختارت الفسخ دون انتظار إسلامه ، أو لعل هذا مذهب من يرى أن النكاح باق حتى يفسخ السلطان .
وقد روي عن عمر في هذا آثار يظن أنها متعارضة ، ولا تعارض بينها ، بل هي موافقة للسنة ، فمنها هذا .
ومنها ما تقدم حكايته عنه أنه خير المرأة ، إن شاءت أقامت عليه ، وإن شاءت فارقته .
ومنها ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16285عباد بن العوام ، عن nindex.php?page=showalam&ids=11814أبي إسحاق الشيباني ، عن يزيد بن علقمة أن عبادة بن النعمان الثعلبي كان ناكحا امرأة من بني تميم فأسلمت ، فقال له nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إما أن تسلم وإما أن ننزعها منك ، فأبى ، فنزعها عمر - رضي الله عنه .
[ ص: 650 ] وقد تمسك بها من يرى عرض الإسلام على الثاني ، فإن أبى فرق بينهما .
وهذه الآثار عن أمير المؤمنين لا تعارض بينها ، فإن النكاح بالإسلام يصير جائزا بعد أن كان لازما ، فيجوز للإمام أن يعجل الفرقة ، ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني ، ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة ، ويجوز للمرأة التربص به إلى أن يسلم ، ولو مكثت سنين ، كل هذا جائز لا محذور فيه .