الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الخطابي: (وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته، وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه، ومن الطريقة التي يسلكونها، ويزعمون أن من لم يتوصل [ ص: 296 ] إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته، بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

وقال له: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [سورة المائدة: 67].

وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي مقامات شتى، وبحضرته عامة أصحابه: ألا هل بلغت.

وكان الذي أنزل عليه من الوحي، وأمر بتبليغه، هو كمال الدين وتمامه، لقوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي [سورة المائدة: 3]، فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين: قواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله - إلا بينه، وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان، ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل [ ص: 297 ] للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز، وإذا كان الأمر على ما قلناه، وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها، إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقتهم، ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل، لعدوا من جملة المتكلمين، ولنقل إلينا أسماء متكلميهم، كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم، فلما لم يظهر ذلك، دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل) .

قال الخطابي: (وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه: أحدها: ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره، وأعجزهم شأنه، وقد تحداهم به وبسورة من مثله، [ ص: 298 ] وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكل عجز عنه، ولم يقدر على شيء منه بوجه: إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه، وبديع نظمه، وحسن معانيه، وإما أن يكون ذلك في وسعهم، وتحت قدرهم، طبعا وتركيبا، ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته، وحجة عليهم في وجود تصديقه، وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان، والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون، وعلى الوجوه كلها، فالعجز موجود، والانقطاع حاصل، هذا إلى ما شاهدوه من آياته، وسائر معجزاته المشهودة عنه، الخارجة عن سوم الطباع، الناقضة للعادات، كتسبيح الحصا في كفه، وحنين الجذع لمفارقته، ورجف الجبل تحته، وسكونه لما ضربه برجله، وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه، وسجود البعير له، ونبوع [ ص: 299 ] الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير، وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم، وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة، وأمور كثيرة سواها، يكثر تعدادها هي مشهورة، ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن) .

قال الخطابي: (فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم، وثبت ذلك في عقولهم، صحت عندهم نبوته، وظهرت عن غيره بينونته، ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز وجل وأمر صفاته، وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة، الشاهدة على أن لها صانعا حكيما، عالما، خبيرا، تام القدرة، بالغ الحكمة، وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: وفي أنفسكم أفلا تبصرون [سورة الذاريات: 21]: إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة، ولطيف الحكمة، الدالين على وجود الصانع [ ص: 300 ] الحكيم، لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك، والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط، والأعضاء المعدة [للأفعال] التي هي خاصة بها، كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع، وحاجتهم إلى الغذاء، فيقع بها الطحن له، وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء، والكبد التي يسلك إليها صفاوته، وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن، وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن.

وكقوله تعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [سورة الغاشية: 17 - 20].

وكقوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [سورة آل عمران: 190].

وما أشبه ذلك من جلال الأدلة، وظواهر الحجج، التي يدركها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب، مما [ ص: 301 ] يطول تتبعه واستقراؤه، فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته، بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها، وجريها على إدلالها، ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل، الذي بان حقه، وعن قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد ظهر صدقه، ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم، كافة عن كافة، قرنا بعد قرن، فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة، على الوجه الذي تقوم به الحجة، وينقطع فيها العذر، ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر، إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة، وتقوم عليه بها الحجة، فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين، وفي التوصل إلى المقصود به أقرب، إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس، وبمقدمات من العلم مركبة [ ص: 302 ] عليها، لا يقع الخلف في دلالتها) .

التالي السابق


الخدمات العلمية