الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام

                                                                                                                                                                                                        659 حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أما يخشى أحدكم أو لا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام ) أي من السجود كما سيأتي بيانه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن محمد بن زياد ) هو الجمحي مدني سكن البصرة وله في البخاري أحاديث عن أبي هريرة ، وفي التابعين أيضا محمد بن زياد الألهاني الحمصي وله عنده حديث واحد عن أبي أمامة في المزارعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أما يخشى أحدكم ) في رواية الكشميهني " أولا يخشى " ولأبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة " أما يخشى أو ألا يخشى " بالشك . و " أما " بتخفيف الميم حرف استفتاح مثل ألا ، وأصلها النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهو هنا استفهام توبيخ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا رفع رأسه قبل الإمام ) زاد ابن خزيمة من رواية حماد بن زيد عن محمد بن زياد " في صلاته " ، وفي رواية حفص بن عمر المذكورة " الذي يرفع رأسه والإمام ساجد " فتبين أن المراد الرفع [ ص: 215 ] من السجود ففيه تعقب على من قال إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معا ، وإنما هو نص في السجود ، ويلتحق به الركوع لكونه في معناه ، ويمكن أن يفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه لأنه غاية الخضوع المطلوب منه ، فلذلك خص بالتنصيص عليه ، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء ، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية ، وأما التقدم على الإمام في الخفض في الركوع والسجود فقيل يلتحق به من باب الأولى ، لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل ، والركوع والسجود من المقاصد ، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد ، ويمكن أن يقال ليس هذا بواضح لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله ، ودخول النقص في المقاصد أشد من دخوله في الوسائل ، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام في حديث آخر أخرجه البزار من رواية مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة مرفوعا الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان . وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أو يجعل الله صورته صورة حمار ) الشك من شعبة ، فقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد ومسلم من رواية يونس بن عبيد والربيع بن مسلم كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد ، فأما الحمادان فقالا " رأس " وأما . يونس فقال " صورة " وأما الربيع فقال " وجه " ، والظاهر أنه من تصرف الرواة . قال عياض : هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه .

                                                                                                                                                                                                        قلت : لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا ، وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمدة ، وخص وقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية وهي أشمل ، وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات ، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب ، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته ، وعن ابن عمر تبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد ، وفي المغني عن أحمد أنه قال في رسالته : ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث ، قال : ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب . واختلف في معنى الوعيد المذكور فقيل : يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي ، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام ، ويرجح هذا المجازي أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين ، لكن ليس في الحديث ما يدل أن ذلك يقع ولا بد ، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك وكون فعله ممكنا لأن يقع عنه ذلك الوعيد ، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء ، قاله ابن دقيق العيد .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن بزيزة : يحتمل أن يراد بالتحويل المسخ أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معا . وحمله آخرون على ظاهره إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك ، وسيأتي في كتاب الأشربة الدليل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة ، وهو حديث أبي مالك الأشعري في المغازي فإن فيه ذكر الخسف وفي آخره " ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " وسيأتي مزيد لذلك في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى . ويقوي حمله على ظاهره أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد " أن يحول الله رأسه رأس كلب " فهذا يبعد [ ص: 216 ] المجاز لانتقاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار . ومما يبعده أيضا إيراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة ، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلا فرأسه رأس حمار ، وإنما قلت ذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا ، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة . وقال ابن الجوزي في الرواية التي عبر فيها بالصورة : هذه اللفظة تمنع تأويل من قال المراد رأس حمار في البلادة ، ولم يبين وجه المنع .

                                                                                                                                                                                                        وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب ، واستدل به على جواز المقارنة ، ولا دلالة فيه لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة ، وبمفهومه على طلب المتابعة ، وأما المقارنة فمسكوت عنها . وقال ابن بزيزة : استدل بظاهره قوم لا يعقلون على جواز التناسخ .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهو مذهب رديء مبني على دعاوى بغير برهان ، والذي استدل بذلك منهم إنما استدل بأصل النسخ لا بخصوص هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                        ( لطيفة ) : قال صاحب " القبس " : ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال ، ودواؤه أن يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية