الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      عن عيسى بن عمر قال : ما رأيت قط بياضا ولا حمرة أحسن من وجه مالك ، ولا أشد بياض ثوب من مالك . ونقل غير واحد أنه كان طوالا ، جسيما ، عظيم الهامة ، أشقر ، أبيض الرأس واللحية ، عظيم اللحية ، أصلع ، وكان لا يحفي شاربه ويراه مثلة .

                                                                                      وقيل : كان أزرق العين . روى بعض ذلك ابن سعد ، عن مطرف بن عبد الله .

                                                                                      وقال محمد بن الضحاك الحزامي : كان مالك نقي الثوب ، رقيقه ، يكثر اختلاف اللبوس .

                                                                                      وقال الوليد بن مسلم : كان مالك يلبس البياض ، ورأيته والأوزاعي يلبسان السيجان .

                                                                                      قال أشهب : كان مالك إذا اعتم ، جعل منها تحت ذقنه ، ويسدل طرفها بين كتفيه . [ ص: 70 ]

                                                                                      وقال خالد بن خداش : رأيت على مالك طيلسانا ، وثيابا مروية جيادا .

                                                                                      وقال أشهب : كان مالك إذا اكتحل للضرورة جلس في بيته .

                                                                                      وقال مصعب : كان يلبس الثياب العدنية ويتطيب .

                                                                                      وقال أبو عاصم : ما رأيت محدثا أحسن وجها من مالك .

                                                                                      وقيل : كان شديد البياض إلى صفرة ، أعين أشم ، كان يوفر سبلته ويحتج بفتل عمر شاربه .

                                                                                      وقال ابن وهب : رأيت مالكا خضب بحناء مرة .

                                                                                      وقال أبو مصعب : كان مالك من أحسن الناس وجها ، وأجلاهم عينا ، وأنقاهم بياضا ، وأتمهم طولا ، في جودة بدن .

                                                                                      وعن الواقدي : كان ربعة ، لم يخضب ، ولا دخل الحمام .

                                                                                      وعن بشر بن الحارث قال : دخلت على مالك ، فرأيت عليه طيلسانا يساوي خمسمائة ، وقد وقع جناحاه على عينيه أشبه شيء بالملوك .

                                                                                      وقال أشهب : كان مالك إذا اعتم ، جعل منها تحت حنكه ، وأرسل طرفها خلفه ، وكان يتطيب بالمسك وغيره .

                                                                                      وقد ساق القاضي عياض من وجوه حسن بزة الإمام ووفور تجمله .

                                                                                      [ ص: 71 ] في نسب مالك اختلاف مع اتفاقهم على أنه عربي أصبحي ، فقيل في جده الأعلى : عوف بن مالك بن زيد بن عامر بن ربيعة بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وإلى قحطان جماع اليمن . ولم يختلفوا أن الأصبحيين من حمير ، وحمير فمن قحطان .

                                                                                      نعم ، وغيمان في نسبه المشهور بغين معجمة ، ثم بآخر الحروف على المشهور ، وقيل : عثمان على الجادة وهذا لم يصح . وخثيل : بخاء معجمة ثم بمثلثة . قاله ابن سعد وغيره ، وقال إسماعيل بن أبي أويس والدارقطني : جثيل : بجيم ثم بمثلثة ، وقيل : حنبل ، وقيل : حسل ، وكلاهما تصحيف .

                                                                                      قال القاضي عياض : اختلف في نسب ذي أصبح اختلافا كثيرا .

                                                                                      مولده : تقدم أنه سنة ثلاث وتسعين ، قاله يحيى بن بكير ، وغيره ، وقيل : سنة أربع ، قاله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وعمارة بن وثيمة ، وغيرهما . وقيل : سنة سبع ، وهو شاذ .

                                                                                      قال خليفة بن خياط ، وإسماعيل بن أبي أويس : ذو أصبح من حمير .

                                                                                      وروي عن ابن إسحاق أنه زعم أن مالكا وآله موالي بني تيم ، فأخطأ وكان ذلك أقوى سبب في تكذيب الإمام مالك له ، وطعنه عليه . وقد كان مالك إماما في نقد الرجال ، حافظا مجودا متقنا .

                                                                                      قال بشر بن عمر الزهراني : سألت مالكا عن رجل ، فقال : هل رأيته [ ص: 72 ] في كتبي ؟ قلت : لا ، قال : لو كان ثقة لرأيته في كتبي .

                                                                                      فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عمن هو عنده ثقة . ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات ، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه ، وهو عنده ثقة ، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره ، إلا أنه بكل حال كثير التحري في نقد الرجال - رحمه الله .

                                                                                      ابن البرقي : حدثنا عثمان بن كنانة ، عن مالك ، قال : ربما جلس إلينا الشيخ ، فيحدث جل نهاره ، ما نأخذ عنه حديثا واحدا ، وما بنا أن نتهمه ، ولكن لم يكن من أهل الحديث .

                                                                                      إسماعيل القاضي : حدثنا عتيق بن يعقوب ، سمعت مالكا يقول : حدثنا ابن شهاب ببضعة وأربعين حديثا ، ثم قال : أعدها علي ، فأعدت عليه منها أربعين حديثا .

                                                                                      وقال نصر بن علي : حدثنا حسين بن عروة ، عن مالك ، قال : قدم علينا الزهري ، فأتيناه ومعنا ربيعة ، فحدثنا بنيف وأربعين حديثا ، ثم أتيناه من الغد ، فقال : انظروا كتابا حتى أحدثكم منه ، أرأيتم ما حدثتكم به أمس ، أيش في أيديكم منه ؟ فقال ربيعة : هاهنا من يرد عليك ما حدثت به أمس . قال : ومن هو ؟ قال : ابن أبي عامر . قال : هات ، فسرد له أربعين حديثا منها ، فقال الزهري : ما كنت أرى أنه بقي من يحفظ هذا غيري . [ ص: 73 ] قال البخاري عن علي بن عبد الله : لمالك نحو من ألف حديث .

                                                                                      قلت : أراد ما اشتهر له في " الموطأ " وغيره ، وإلا فعنده شيء كثير ما كان يفعل أن يرويه .

                                                                                      وروى علي ابن المديني ، عن سفيان ، قال : رحم الله مالكا ، ما كان أشد انتقاده للرجال .

                                                                                      ابن أبي خيثمة : حدثنا ابن معين ، قال ابن عيينة : ما نحن عند مالك ، إنما كنا نتبع آثار مالك ، وننظر الشيخ ، إن كان كتب عنه مالك ، كتبنا عنه .

                                                                                      وروى طاهر بن خالد الأيلي ، عن أبيه ، عن ابن عيينة ، قال : كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ، ولا يحدث إلا عن ثقة ، ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته - يعني من العلم .

                                                                                      الطحاوي : حدثنا يونس : سمعت سفيان - وذكر حديثا - فقالوا : يخالفك فيه مالك ، فقال : أتقرنني بمالك ؟ ما أنا وهو إلا كما قال جرير [ ص: 74 ]

                                                                                      وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس



                                                                                      ثم قال يونس : سمعت الشافعي يقول : مالك وابن عيينة القرينان ، ولولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز .

                                                                                      وهب بن جرير وغيره ، عن شعبة ، قال : قدمت المدينة بعد موت نافع بسنة ، ولمالك بن أنس حلقة .

                                                                                      وقال حماد بن زيد : حدثنا أيوب قال : لقد كان لمالك حلقة في حياة نافع .

                                                                                      وقال أشهب : سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن مالك ، وابن الماجشون ، فرفع مالكا ، وقال : ما اعتدلا في العلم قط .

                                                                                      ابن المديني : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : أخبرني وهيب - وكان من أبصر الناس بالحديث والرجال - أنه قدم المدينة ، قال : فلم أر أحدا إلا تعرف وتنكر إلا مالكا ، ويحيى بن سعيد الأنصاري .

                                                                                      قال عبد الرحمن : لا أقدم على مالك في صحة الحديث أحدا .

                                                                                      وقال ابن لهيعة : قلت لأبي الأسود : من للرأي بعد ربيعة بالمدينة ؟ قال : الغلام الأصبحي . [ ص: 75 ] الحارث بن مسكين : سمعت ابن وهب يقول : لولا أني أدركت مالكا ، والليث ، لضللت .

                                                                                      هارون بن سعيد : سمعت ابن وهب ذكر اختلاف الحديث والروايات ، فقال : لولا أني لقيت مالكا لضللت .

                                                                                      وقال يحيى القطان : ما في القوم أصح حديثا من مالك ، كان إماما في الحديث . قال : وسفيان الثوري فوقه في كل شيء .

                                                                                      قال الشافعي : قال محمد بن الحسن أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسرا ، وسمعت من لفظه أكثر من سبع مائة حديث ، فكان محمد إذا حدث عن مالك امتلأ منزله ، وإذا حدث عن غيره من الكوفيين ، لم يجئه إلا اليسير .

                                                                                      قال ابن أبي عمر العدني : سمعت الشافعي يقول : مالك معلمي ، وعنه أخذت العلم .

                                                                                      وعن الشافعي قال : كان مالك إذا شك في حديث ، طرحه كله .

                                                                                      أبو عمر بن عبد البر : حدثنا قاسم بن محمد ، حدثنا خالد بن سعد ، [ ص: 76 ] حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، حدثنا إبراهيم بن نصر ، سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، سمعت الشافعي يقول : قال لي محمد بن الحسن : صاحبنا أعلم من صاحبكم - يريد أبا حنيفة ومالكا - وما كان لصاحبكم أن يتكلم ، وما كان لصاحبنا أن يسكت . فغضبت ، وقلت : نشدتك الله : من أعلم بالسنة ، مالك ، أو صاحبكم ؟ فقال : مالك ، لكن صاحبنا أقيس . فقلت : نعم ، ومالك أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه ، وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي حنيفة ، ومن كان أعلم بالكتاب والسنة كان أولى بالكلام .

                                                                                      قال يونس بن عبد الأعلى : قال لي الشافعي : ذاكرت يوما محمد بن الحسن ، ودار بيننا كلام واختلاف ، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تدر وأزراره تتقطع . فقلت : نشدتك بالله ، تعلم أن صاحبنا كان أعلم بكتاب الله ؟ قال : اللهم نعم . قلت : وكان عالما باختلاف الصحابة ؟ قال : نعم .

                                                                                      قال ابن مهدي : أئمة الناس في زمانهم أربعة : الثوري ، ومالك ، والأوزاعي ، وحماد بن زيد ، وقال : ما رأيت أحدا أعقل من مالك .

                                                                                      يونس بن عبد الأعلى : حدثنا ابن وهب ، سمعت مالكا - وقال له ابن القاسم : ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر - فقال مالك : من أين علموا ذلك ؟ قال : منك يا أبا عبد الله . فقال : ما أعلمها أنا ، فكيف يعلمونها بي ؟ [ ص: 77 ] وعن مالك قال : جنة العالم : " لا أدري " فإذا أغفلها أصيبت مقاتله .

                                                                                      قال مصعب بن عبد الله : كانت حلقة مالك في زمن ربيعة مثل حلقة ربيعة وأكبر ، وقد أفتى معه عند السلطان .

                                                                                      الزبير بن بكار : حدثنا مطرف ، حدثنا مالك ، قال : لما أجمعت التحويل عن مجلس ربيعة ، جلست أنا وسليمان بن بلال في ناحية المسجد ، فلما قام ربيعة ، عدل إلينا ، فقال : يا مالك ، تلعب بنفسك زفنت ، وصفق لك سليمان ، بلغت إلى أن تتخذ مجلسا لنفسك ؟! ارجع إلى مجلسك .

                                                                                      قال الهيثم بن جميل : سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها ب " لا أدري " .

                                                                                      وعن خالد بن خداش ، قال : قدمت على مالك بأربعين مسألة ، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل .

                                                                                      ابن وهب ، عن مالك ، سمع عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول : ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول : " لا أدري " . حتى يكون ذلك أصلا يفزعون إليه .

                                                                                      قال ابن عبد البر : صح عن أبي الدرداء أن : " لا أدري " نصف العلم . [ ص: 78 ]

                                                                                      قال محمد بن رمح : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، إن مالكا والليث يختلفان ، فبأيهما آخذ ؟ قال : مالك مالك .

                                                                                      أشهب ، عن عبد العزيز الدراوردي ، قال : دخلت مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فوافيته يخطب ، إذ أقبل مالك ، فلما أبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إلي إلي ، فأقبل حتى دنا منه ، فسل - صلى الله عليه وسلم - خاتمه من خنصره ، فوضعه في خنصر مالك .

                                                                                      محمد بن جرير : حدثنا العباس بن الوليد ، حدثنا إبراهيم بن حماد الزهري ، سمعت مالكا يقول : قال لي المهدي : ضع يا أبا عبد الله كتابا أحمل الأمة عليه . فقلت : يا أمير المؤمنين ، أما هذا الصقع - وأشرت إلى المغرب - فقد كفيته ، وأما الشام ففيهم من قد علمت - يعني الأوزاعي - وأما العراق فهم أهل العراق .

                                                                                      ابن سعد : حدثنا محمد بن عمر ، سمعت مالكا يقول : لما حج المنصور دعاني فدخلت عليه ، فحادثته ، وسألني فأجبته ، فقال : عزمت أن آمر بكتبك هذه - يعني " الموطأ " - فتنسخ نسخا ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث ، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم . قلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم ، وعملوا به ، ودانوا به ، من اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم ، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد ، فدع الناس وما هم عليه ، وما اختار أهل كل بلد [ ص: 79 ] لأنفسهم . فقال : لعمري ، لو طاوعتني لأمرت بذلك .

                                                                                      قال الزبير بن بكار : حدثنا ابن مسكين ، ومحمد بن مسلمة ، قالا : سمعنا مالكا يذكر دخوله على المنصور ، وقوله في انتساخ كتبه ، وحمل الناس عليها ، فقلت : قد رسخ في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به ، ورد العامة عن مثل هذا عسير .

                                                                                      قال الواقدي : كان مالك يجلس في منزله على ضجاع ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائر البيت لمن يأتي ، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم ، وكان مهيبا ، نبيلا ، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث بعد الحديث ، وربما أذن لبعضهم ، فقرأ عليه ، وكان له كاتب يقال له : حبيب . قد نسخ كتبه ، ويقرأ للجماعة ، فإذا أخطأ فتح عليه مالك ، وكان ذلك قليلا .

                                                                                      أبو زرعة : حدثنا أبو مسهر ، قال لي مالك : قال لي أبو جعفر : يا أبا عبد الله ، ذهب الناس ، لم يبق غيري وغيرك .

                                                                                      ابن وهب ، عن مالك : دخلت على أبي جعفر ، فرأيت غير واحد من بني هاشم يقبلون يده ، وعوفيت ، فلم أقبل له يدا .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية