الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 192 ] ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) .

[ ص: 193 ] ( واذكر ) خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمراد اتل عليهم نبأ ( إبراهيم ) وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله ، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد جمادا والفريقان وإن اشتركا في الضلال ، والفريق العابد الجماد أضل ، ثم ذكر قصة إبراهيم مع أبيه - عليه السلام - تذكيرا للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله ، وتبيين أنهم سالكو غير طريقه ، وفيه صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي . والصديق من أبنية المبالغة ، وهو مبني من الثلاثي للمبالغة ، أي : كثير الصدق ، والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب ، وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل ، يقال : صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا ، وعود صدق للصلب الجيد فوصف إبراهيم بالصدق على العموم في أقواله وأفعاله ، والصديقية مراتب ألا ترى إلى وصف المؤمنين بها في قوله ( من النبيين والصديقين ) ومن غريب النقل ما ذهب إليه بعض النحويين من أن فعيلا إذا كان من متعد جاز أن يعمل فتقول هذا شريب مسكر كما أعملوا عند البصريين فعولا وفعالا ومفعالا .

وقال الزمخشري : والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله ، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل ، أي : كان مصدقا لجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيا في نفسه لقوله تعالى ( بل جاء بالحق وصدق المرسلين ) وكان بليغا في الصدق ؛ لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، ومصدق الله بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك ، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله أعني ( إبراهيم ) .

و ( إذ قال ) نحو قولك : رأيت زيدا - ونعم الرجل - أخاك ويجوز أن تتعلق ( إذ ) بكان أو بـ ( صديقا نبيا ) ، أي : كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات . انتهى .

فالتخريج الأول يقتضي تصرف ( إذ ) وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف ، والتخريج الثاني مبني على أن ( كان ) الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف . والتخريج الثالث لا يصح ؛ لأن العمل لا ينسب إلا إلى لفظ واحد ، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا ، وجائز أن يكون معمولا لـ ( صديقا ) لأنه نعت إلا على رأي الكوفيين ، ويحتمل أن يكون معمولا لـ ( نبيا ) ، أي : منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال ، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد .

وقرأ أبو البر هثيم ( إنه كان صادقا ) . وفي قوله ( ياأبت ) تلطف واستدعاء بالنسب . وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر ( يا أبت ) بفتح التاء وقد لحن هارون هذه القراءة ، وتقدم الكلام على ( يا أبت ) في سورة يوسف - عليه السلام - وفي مصحف عبد الله وا أبت بواو بدل ياء ، واستفهم إبراهيم - عليه السلام - عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الصنم وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئا تنبيها على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتفت عنه هذه الأوصاف .

وخطب الزمخشري فقال : انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم ، والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل ، وانسلخ عن قضية التمييز ؛ كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق ، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن ، منتصحا في ذلك نصيحة ربه - جل وعلا - . حدث أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله : " أوحى الله إلى إبراهيم - عليه السلام - إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار " ، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة [ ص: 194 ] القدس ، وأدنيه من جواري . وسرد الزمخشري بعد هذا كلاما كثيرا من نوع الخطابة تركناه .

و ( ما لا يسمع ) الظاهر أنها موصولة ، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ، ومعمول ( يسمع ) و ( يبصر ) منسي ولا ينوي ، أي : ما ليس به استماع ولا إبصار ؛ لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق . و ( شيئا ) . إما مصدر أو مفعول به ، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جوابا ، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق . وقال ( من العلم ) على سبيل التبعيض ، أي : شيء من العلم ليس معك ، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعدما نبئ ، إذ في لفظ ( جاءني ) تجدد العلم ، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالألوهية والعبادة أقوال ثلاثة ( فاتبعني ) على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام ( أهدك صراطا مستقيما ) وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة . وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان ، وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصيا للرحمن ، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى ، فهو عدو لك ولأبيك آدم من قبل . وكان لفظ الرحمن هنا تنبيها على سعة رحمته ، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى ، وإعلاما بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة ، وإن كان مختارا لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلا ما اختار لنفسه من عصيانهم .

( ياأبت إني أخاف ) قال الفراء والطبري ( أخاف ) أعلم كما قال ( فخشينا أن يرهقهما ) ، أي : تيقنا ، والأولى حمل ( أخاف ) على موضوعه الأصلي ؛ لأنه لم يكن آيسا من إيمانه بل كان راجيا له وخائفا أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب ، وخوفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدب معه إذ لم يصرح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف ، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب ، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان ، كما قال في مقابل ذلك ( ورضوان من الله أكبر ) ، أي : من النعيم السابق ذكره ، وصدر كل نصيحة بقوله ( يا أبت ) توصلا إليه واستعطافا .

وقيل : الولاية هنا كونه مقرونا معه في الآخرة وإن تباغضا وتبرأ بعضهما من بعض . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير إني أخاف أن تكون وليا في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن . وقوله ( أن يمسك عذاب من الرحمن ) لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة ، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير مواليا للشيطان ، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا ، فيكون ذلك العذاب سببا لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافى على الكفر كما قال ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) وهذه المناصحات تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه ، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإرشادا إلى الهدى " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " .

( قال ) ، أي : أبوه ( أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ) استفهم استفهام إنكار ، والرغبة عن الشيء تركه عمدا ، وآلهته أصنامه ، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل ( يا أبت ) بيا بني . قال الزمخشري : وقدم الخبر على المبتدأ في قوله ( أراغب أنت عن آلهتي ) لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد . وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه . انتهى .

والمختار في إعراب ( أراغب أنت ) أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، و ( أنت ) فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا [ ص: 195 ] الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون ( أراغب ) خبرا و ( أنت ) مبتدأ بوجهين :

أحدهما : أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ .

والثاني : أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو ( أراغب ) وبين معموله الذي هو ( عن آلهتي ) بما ليس بمعمول للعامل ؛ لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ بخلاف كون ( أنت ) فاعلا فإنه معمول ( أراغب ) فلم يفصل بين ( أراغب ) وبين ( عن آلهتي ) بأجنبي إنما فصل بمعمول له .

ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسما على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق ( تنته ) محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه ، وأن يكون ( لئن لم تنته ) عن الرغبة عن آلهتي ( لأرجمنك ) جواب القسم المحذوف قبل ( لئن ) . قال الحسن : بالحجارة . وقيل : لأقتلنك . وقال السدي والضحاك وابن جريج : لأشتمنك .

قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف ( واهجرني ) ؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه ( لأرجمنك ) ، أي : فاحذرني ( واهجرني ) ؛ لأن ( لأرجمنك ) تهديد وتقريع . انتهى . وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه ، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية . فقوله ( واهجرني ) معطوف على قوله ( لئن لم تنته لأرجمنك ) وكلاهما معمول للقول . وانتصب ( مليا ) على الظرف ، أي : دهرا طويلا ، قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما ، ومنه الملوان ، وهما الليل والنهار . والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم : أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له . وقال الشاعر :


فعشنا بها من الشباب ملاوة فأنجح آيات الرسول المحبب



وقال سيبويه : سير عليه ملي من الدهر ، أي : زمان طويل . وقال ابن عباس وغيره : ( مليا ) معناه سالم سويا فهو حال من فاعل ( واهجرني ) . قال ابن عطية : وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستندا بحالك غنيا عني مليا بالاكتفاء . وقال السدي : معناه أبدا . ومنه قول مهلهل :


فتصدعت صم الجبال لموته     وبكت عليه المرملات مليا



وقال ابن جبير : دهرا ، وأصل الحرف المكث ، يقال : تمليت حينا . وقال الزمخشري : أو ( مليا ) بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح ، فلان ملي بكذا إذا كان مطيقا له مضطلعا به انتهى .

( قال سلام عليك ) . قرأ أبو البر هثيم : سلاما بالنصب . قال الجمهور : هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية ، أي : أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام . وقال النقاش حليم خاطب سفيها كقوله ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) . وقيل : هي تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ) الآية وبقوله ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ) الآية .

و ( قال ) إبراهيم لأبيه ( سلام عليك ) وما استدل به متأول ، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم : " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام " ورفع ( سلام ) على الابتداء ونصبه على المصدر ، أي : سلمت سلاما دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة ، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ، ولا يصح الامتثال إلا بشرط الإيمان . ومعنى ( سأستغفر لك ) أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ، ولا يتأول على إبراهيم - عليه السلام - أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون إبراهيم - عليه السلام - أول نبي أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر ؛ لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع ، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين : إما بموته على الكفر كما روي ، وإما أن [ ص: 196 ] يوحى إليه الحتم عليه .

وقال الزمخشري : ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع ، فأما القضية العقلية فلا تأباه ، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار ، والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل ، والذي يدل على صحته قوله تعالى ( إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ) فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه . وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن مستدلا بقوله ( إلا عن موعدة وعدها إياه ) فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم - عليه السلام - ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي من قوله ( لئن لم تنته ) الآية . فكيف يكون وعده بالإيمان ؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية ( وعدها إياه ) .

والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف ، وتقدم شرحه لغة في قوله ( كأنك حفي عنها ) . وقال ابن عباس : رحيما . وقال الكلبي : حليما . وقال القتبي : بارا . وقال السدي : حفيك من يهمه أمرك ، ولما كان في قوله ( لأرجمنك ) فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ، ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة ، وإن كان قد صدر منه إغلاظ . ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم ، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء ، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر ، والأظهر أن قوله ( وأدعو ربي ) معناه وأعبد ربي كما جاء في الحديث : " الدعاء العبادة " لقوله ( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله ) ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء ( رب هب لي حكما ) إلى آخره ، وعرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله ( عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) مع التواضع لله في كلمة ( عسى ) وما فيه من هضم النفس . وفي ( عسى ) ترج في ضمنه خوف شديد ، ولما فارق الكفار وأرضهم أبدله منهم أولادا أنبياء ، والأرض المقدسة فكان فيها ، ويتردد إلى مكة فولد له إسحاق وابنه يعقوب تسلية له وشدا لعضده ، وإسحاق أصغر من إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة ثم حملت بإسحاق .

وقوله ( من رحمتنا ) قال الحسن : هي النبوة . وقال الكلبي : المال والولد ، والأحسن أن يكون الخير الديني والدنيوي من العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة . ولسان الصدق : الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس ، وعبر باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية . واللسان في كلام العرب : الرسالة الرائعة كانت في خير أو شر . قال الشاعر :


إني أتتني لسان لا أسر بها



وقال آخر :


ندمت على لسان كان مني



ولسان العرب لغتهم وكلامهم . استجاب الله دعوته ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) ، فصيره قدوة حتى عظمه أهل الأديان كلهم وادعوه . وقال تعالى ( ملة أبيكم إبراهيم ) و ( ملة إبراهيم حنيفا ) ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) وأعطى ذلك ذريته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم ، كما أعلى ذكرهم وأثنى عليهم كما أعلى ذكره وأثنى عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية