الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب في المسافر يصوم رمضان عن غيره

واختلف في المسافر يصوم رمضان عن واجب غيره ، فقال أبو حنيفة : " هو عما نوى " فإن صامه تطوعا فعنه روايتان : إحداهما : أنه عن رمضان ، والأخرى : أنه تطوع ، وقال أبو يوسف ومحمد : " هو عن رمضان في الوجهين جميعا " وقال أصحابنا جميعا في المقيم إذا نوى بصيامه واجبا غيره أو تطوعا : " إنه عن رمضان ويجزيه " وقال الثوري والأوزاعي في امرأة صامت رمضان تطوعا فإذا هو من شهر رمضان : " أجزأها " وقالا : " من صام في أرض العدو تطوعا وهو لا يعلم أنه رمضان أجزى عنه " وقال مالك والليث : " من صام في أول يوم من رمضان وهو لا يعلم أنه رمضان لم يجزه " .

وقال الشافعي : " ليس لأحد أن يصوم دينا ولا قضاء لغيره في رمضان ، فإن فعل لم يجزه لرمضان ولا لغيره " .

قال أبو بكر : نبتدئ بعون الله تعالى بالكلام في المقيم يصوم رمضان تطوعا ، فنقول : الدلالة على صحة قول أصحابنا من طريق الظاهر وجوه :

أحدها : قوله عز وجل : كتب عليكم الصيام إلى قوله : وأن تصوموا خير لكم ولم يخصص صوما ، فهو على سائر ما يصومه من تطوع أو فرض في كونه مجزيا عن الفرض ؛ لأنه لا يخلو الصائم تطوعا أو واجبا غير أن يكون صوما عما نوى دون رمضان ، أو يكون ملغى لا حكم له بمنزلة من لم يصم ، أو مجزيا عن رمضان ؛ فلما كان وقوعه عما نوى وكونه ملغى مانعين من أن يكون هذا الصيام خيرا له بل يكون وقوعه عن رمضان خيرا له ، وجب أن لا يكون ملغى ، ولا عما نوى من غير رمضان .

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ثم قال في نسق التلاوة : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ومعلوم عند جميع فقهاء الأمصار إضمار الإفطار فيه ، وأن تقديره : " فأفطر فعدة من أيام أخر " فإنما أوجب القضاء على المسافر والمريض إذا أفطرا فيه ، فثبت بذلك أن من صام من المقيمين ولم يفطر فلا قضاء عليه ، إذ قد تضمنت الآية وأن صيام الجميع من المخاطبين إلا من أفطر من المرضى والمسافرين ، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فاقتضى ظاهر ذلك جوازه على أي وجه أوقع صومه من تطوع أو غيره .

ومن جهة النظر أن صوم رمضان لما كان مستحق العين في هذا الوقت أشبه طواف الزيارة في يوم النحر ، فعلى أي وجه أوقعه أجزأ عن الفرض ، على أنه لو نواه عن غيره لم يكن عما نواه فلولا أنه قد أجزى [ ص: 271 ] عن الفرض لوجب أن يجزيه عما نوى كصيام سائر الأيام يجزى عما نوى .

فإن قيل : إن صلاة الظهر مستحقة العين لهذا الوقت إذا بقي من الوقت مقدار ما يصلي فيه الظهر ، ولم يوجب ذلك جوازها بنية النفل ، قيل له : وقت الظهر غير مستحق العين لفعلها ؛ لأنه يتسع لفعلها ولغيرها ، ولا فرق بين أول الوقت وآخره ، فإذا كان فعل التطوع في أوله لا يجزي عن الفرض كذلك في آخره ، وأيضا فإنه إذا نوى بصلاته في آخر الوقت تطوعا أو فرضا غيره كان كما نوى .

وقد اتفقنا على أن صوم عين رمضان لا يجزي عن غيره ، فدل أنه مستحق العين لامتناع جواز صوم آخر فيه ولأنه وقت يستغرق الفرض لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه ، والظهر لها وقت غير أنه إذا أخره كان جائزا له فعلها فيه .

فإن قيل : قوله صلى الله عليه وسلم : الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى يمنع جواز صوم رمضان بنية التطوع ، قيل له : أما قوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات فلا يصح الاحتجاج به ؛ لأن فيه ضميرا محتملا لمعان من جواز وفضيلة ، وهو غير مذكور في اللفظ ، ومتى تنازعنا فيه احتيج إلى دلالة في إثباته ، فسقط الاحتجاج به ، وأما قوله : ولكل امرئ ما نوى فإن خصمنا يوافقنا في هذه المسألة أنه ليس له ما نوى من تطوع ولا فرض غيره ؛ لأنا نقول : لا يكون تطوعا ولا فرضا غير رمضان ، وهو يقول : لا يكون عن رمضان ولا عما نوى ؛ فحصل باتفاق الجميع أن قوله : " ولكل امرئ ما نوى " غير مستعمل على ظاهره على هذه المسألة ، وأيضا قوله : ولكل امرئ ما نوى غير مستعمل عند الجميع على حقيقته ؛ لأنه يقتضي أن من نوى الصوم كان صائما ، ومن نوى الصلاة كان مصليا ، وإن لم يفعل شيئا من ذلك ، وقد علم أنه لا يحصل له الصلاة بمجرد النية دون فعلها ، وكذلك الصوم وسائر الفروض والطاعات ؛ فثبت بذلك أن هذا اللفظ غير مكتف بنفسه في إثبات حكمه إلا بقرينة ؛ فسقط احتجاج المخالف به من وجهين :

أحدهما : أن الحكم متعلق بمعنى محذوف ويحتاج إلى دلالة في إثباته ، وما كان هذا وصفه فالاحتجاج بظاهره ساقط ، والوجه الآخر : أن قوله صلى الله عليه وسلم : " ولكل امرئ ما نوى " يقتضي جواز صومه إذا نواه تطوعا ، فإذا جاز صومه وقع عن الفرض لاتفاقنا أنه إذا لم يجز عن الفرض لم يحصل له ما نوى ، فوجب بقضية قوله : " ولكل امرئ ما نوى " إن يحصل له ما نوى وإلا فقد ألغينا حكم اللفظ رأسا ، وأيضا معلوم من فحوى قوله " ولكل امرئ ما نوى " ما يقتضيه نيته من ثواب فرض أو فضيلة أو نحوها فيستحق ذلك ؛ ولأنه غير جائز أن [ ص: 272 ] يكون مراده وقوع الفعل ؛ لأن الفعل حاصل موجود مع وجود النية وعدمها والنية هي التي تصرف أحكامه على حسب مقتضاها وموجبها من استحقاق ثواب الفرض أو الفضيلة أو الحمد أو الذم إن كانت النية تقتضي حمده أو ذمه ؛ وإذا كان ذلك كذلك فليس يخلو القول فيها من أحد معنيين :

إما أن يسقط اعتبار حكم اللفظ في دلالته على جواز الصوم أو بطلانه ووجب طلب الدلالة عليه من غيره ، أو أن يستعمل حكمه فيما يقتضيه مضمونه من إفادة ما يتعلق به من ثواب أو حمد أو ذم ؛ فإذا وجب استعمال على ذلك وقد توجهت نيته إلى ضرب من القرب ، فواجب أن يحصل له ذلك ؛ ثم أقل أحواله في ذلك إن لم يكن ثوابه مثل ثواب ناوي الفرض أن يكون أنقص منه ، ونقصان الثواب لا يمنع جوازه عن الفرض .

والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليصلي الصلاة فيكتب له نصفها ، ربعها ، خمسها ، عشرها فأخبر بنقصان الثواب مع الجواز ، ويدل على صحة ما ذكرنا من تعلق حكم اللفظ بالثواب والعقاب أو الحمد والذم ، قوله صلى الله عليه وسلم : ولكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه .

وزعم الشافعي أن من عليه حجة الإسلام فأحرم ينوي تطوعا ، أنه يجزيه من حجة الإسلام ، فأسقط نية التطوع وجعلها للفرض مع قوله إن فرض الحج على المهلة وإنه غير مستحق الفعل في وقت معين ، وذلك أبعد في الجواز من صوم رمضان لأن صوم رمضان مستحق العين في وقت لا يجوز له تقديمه عليه ولا تأخيره عنه ، فترك ظاهر قوله على أصله " الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " ولم يلجأ فيه إلى نظر صحيح يعضد مقالته ؛ وكان الواجب على أصلهم اعتبار ما يدعونه ظاهرا من هذا الخبر ، وأما على أصلنا فقد بينا أن الاحتجاج به ساقط ، وأوضحنا عن معناه ومقتضاه وأنه يوجب جوازه عن الفرض ؛ فسلم لنا ما استدللنا به من الظواهر والنظر ولم يعترض عليه هذا الأثر .

وأما المسافر إذا صام رمضان عن واجب عليه ، فإنما أجاز ذلك أبو حنيفة عما نوى ؛ لأن فعل الصوم غير مستحق عليه في هذا الحال وهو مخير مع الإمكان من غير ضرر بين فعله وتركه فأشبه سائر الأيام غير رمضان ، فلما كان سائر الأيام جائزا لمن صامه عما نواه فكذلك حكم رمضان للمسافر ، وعلى هذا ينبغي أنه متى نواه تطوعا أن يكون تطوعا على الرواية التي رويت ، وهي أقيس [ ص: 273 ] الروايتين

فإن قيل : على هذا يلزمه أن يجزي صوم المريض الذي يجوز له الإفطار عن غير رمضان بأن نواه تطوعا أو عن واجب عليه ، للعلة التي ذكرتها في المسافر ؟ قيل له : لا يلزم ذلك لعدم العلة التي ذكرتها في المسافر ؛ وذلك لأن المعنى الذي وجب القول في المسافر بما وصفناه وأنه مخير بين الصوم وتركه من غير ضرر يلحقه وأشبه ذلك في غير رمضان ، وأما المريض فليس كذلك لأنه لا يجوز له الفطر إلا مع خشية زيادة العلة والضرر اللاحق بالصوم ؛ فهو لا يخلو من أن لا يضر به الصوم فعليه فعله ، أو أن يضره فغير جائز له الصوم ، فلما كان كذلك كان فعل الصوم مستحقا عليه أو تركه من غير تخيير ، فمتى صامه وقع عن الفرض ؛ إذ كانت إباحة الإفطار متعلقة بخشية الضرر ، فمتى فعل الصوم فقد زال المعنى وصار بمنزلة الصحيح فأجزى عن صوم الشهر على أي وجه صام ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية