الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون

الواو في قوله وإن يأتوكم أسارى يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله تقتلون أنفسكم وتخرجون فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو [ ص: 590 ] وإن لم يتقدم في ذكر ما أخذ عليهم العهد ما يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات . ولك أن تجعل الواو للحال من قوله وتخرجون فريقا أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم . وكيفما قدرت فقوله وهو محرم عليكم إخراجهم جملة حالية من قوله يأتوكم إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فمحل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرما وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم ، فجملة وهو محرم عليكم إخراجهم حالية من ضمير تفادوهم وصدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله وتخرجون فريقا منكم ، وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله ولا تخرجون أنفسكم ، وفي قوله وهو محرم عليكم إخراجهم تشنيع وتبليد لهم توهموا القربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء ؛ وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء ؟ وعندي أن في الآية دلالة على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية .

والأسارى بضم الهمزة جمع أسير حملا له على كسلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا كسلى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أسرى كقتلى . وقيل هو جمع نادر وليس مبنيا على حمل ، كما قالوا قدامى جمع قديم . وقيل هو جمع جمع فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أسارى وهو أظهر .

والأسير فعيل بمعنى مفعول من أسره إذا أوثقه ، وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسار هو السير من الجلد الذي يوثق به المسجون والموثوق وكانوا يوثقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجلد ، قال النابغة : لم يبق غير طريد غير منفلت أو موثق في حبال القد مسلوب وقرأ الجمهور أسارى وقرأه حمزة ( أسرى ) . وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب تفادوهم بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة [ ص: 591 ] في الفداء أي تفدوهم فداء حريصا ، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرئ القيس :

    فعادى عداء بين ثور ونعجة
دراكا فلم ينضح بماء فيغسل وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف ( تفدوهم ) بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء ، والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع ، والحرام الممنوع منعا شديدا أو الممنوع منعا من قبل الدين ، ولذلك قالوا الأشهر الحرم وشهر المحرم .

وقوله أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم ، وسمي الإتباع والإعراض إيمانا وكفرا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به ، وإنما وقع تؤمنون في حيز الإنكار تنبيها على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين .

والفاء عاطفة على تقتلون أنفسكم ، وما عطف عليه ، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرا دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند قوله أفكلما جاءكم رسول . والفاء في قوله فما جزاء من يفعل ذلك منكم فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ .

وقال عبد الحكيم إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظا ، أما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكما جديدا وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم .

والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع بفتح الخاء . والمراد بالخزي ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم .

[ ص: 592 ] وقرأ الجمهور ( يردون ) و ( يعملون ) بياء الغيبة ، وقرأ عاصم في رواية عنه ( تردون ) بتاء الخطاب نظرا إلى معنى من وإلى قوله منكم ، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب ( يعملون ) بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب .

وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة . وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله أولئك الذين اشتروا موقع نظيره في قوله أولئك على هدى من ربهم والقول في اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة كالقول في أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، والقول في فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون قريب من القول في ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون وموقع الفاء في قوله فلا يخفف عنهم العذاب هو الترتيب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرا يدفع عنه أو يخفف .

التالي السابق


الخدمات العلمية