الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فأما ربا الفضل فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون ، وإن كان يسيرا كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين ، وعنه : لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم ، وعنه : لا يحرم إلا في ذلك إذا كان مكيلا أو موزونا ، ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا ، ولا ما أصله الوزن كيلا ، فإن اختلف الجنس جاز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا وجزافا ، والجنس : ما له اسم خاص يشمل أنواعا كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ، وفروع الأجناس أجناس كالأدقة والأخباز والأدهان واللحم أجناس باختلاف أصوله ، وعنه : جنس واحد ، وكذلك اللبن ، وعنه : في اللحم أنه أربعة أجناس ؛ لحم الأنعام ولحم الوحش ولحم الطير ولحم دواب الماء واللحم والشحم ، والكبد أجناس .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( فأما ربا الفضل فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون ، وإن كان يسيرا كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين ) لما روى عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد رواه أحمد ومسلم ، وعن أبي سعيد مرفوعا نحوه . متفق عليه .

                                                                                                                          وأجمعوا على جريان الربا في الأعيان الستة ، ثم اختلفوا هل هو لمعنى فيها ، أو لأعيانها وهل عرف ذلك المعنى أم لا ، فعن ابن عقيل أنه تردد في المعنى ، ولم يعدها الستة لتعارض الأدلة عنده في المعنى وذهب جمهور العلماء إلى معرفة العلة وتعديها الستة ، ثم اختلفوا ، والأشهر عن إمامنا ومختار عامة الأصحاب أن علة الربا في النقدين كونه موزون جنس ، وفي الأعيان الباقية كونه مكيل جنس ، فعليه يجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه مطعوما كان أو غيره كالحبوب والأشنان والقطن والكتان والحديد والنحاس ؛ لأن الكيل والوزن يسوي بينهما صورة ، والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة ، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالمعدودات ، فعلى هذا تباع بيضة وخيارة [ ص: 129 ] وبطيخة ورمانة بمثلها ، نص عليه ؛ لأنه ليس مكيلا ، ولا موزونا ، لكن نقل مهنا أنه كره بيع بيضة ببيضتين ، وقال لا يصلح إلا وزنا بوزن ؛ لأنه طعام ، وعلى المذهب يجوز إسلام أحد النقدين في الموزون وبه أبطلت العلة ؛ لأن كل شيئين شملهما إحدى علتي ربا الفضل يحرم النساء فيهما ولهذا جزم بعض أصحابنا أنه لا يصح ، ولو سلم فللحاجة وأجاب القاضي بأن القياس المنع ، وإنما جاز للمشقة ، ولها تأثير لاختلاف معانيها ؛ لأن أحدهما ثمن ، والآخر مثمن وللتسامح بهذا دون ذاك ، فحصلا في حكم الجنسين قوله : من كل مكيل ، أو موزون أي : ما كان من جنسه مكيلا ، أو موزونا ، وإن لم يأت فيه ذلك كالحبة بالحبتين ، والحفنة بالحفنتين ، أو لكثرته كالزبرة العظيمة وهل يعم كمعمول من الموزون بأصله ، أو بحاله بعد العمل ؛ فنص أحمد أنه لا يباع فلس بفلسين ، ولا سكين بسكينين ، ولا إبرة بإبرتين معللا بأن أصل ذلك الوزن ، ونص في رواية جماعة أنه يباع ثوب بثوبين وكساء بكساءين ، فنقل في " المجرد " حكم كل إلى الأخرى ، فجعل فيهما جميعا روايتين اختار ابن عقيل وغيره المنع اعتبارا بأصله ، واختار في " المغني " وغيره الجواز نظرا للحال ، وظاهر التعليق والجامع حمل النص على اختلاف حالين .

                                                                                                                          ( وعنه : لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم ) للآدمي نقلها جماعة لما روى يعلى بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل . رواه مسلم ، فعليها وعلى الثالثة العلة في النقدين الثمنية ، وفي غيرهما كونه مطعوم جنس فيختص بالمطعومات ؛ لأن الطعم وصف شرف ، إذ به [ ص: 130 ] قوام الأبدان ، والثمنية وصف شرف ، إذ به قوام الأموال فاقتضى التعليل ذلك ، إذ لو كانت العلة الوزن لما جاز إسلامها في الموزونات فعليها يجري في كل مطعوم قوتا كان ، أو أدما ، أو فاكهة ، أو دواء ويستثنى منه الماء على ما قطع به الأكثر لقوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني [ البقرة : 249 ] ، وجوابه بأنه لا يجري فيه لإباحته في الأصل وبأنه لا يتمول عادة ، وفيه نظر ؛ إذ العلة عندنا ليست هي المالية ( وعنه : لا يحرم إلا في ذلك إذا كان مكيلا ، أو موزونا ) ، اختارها تقي الدين لما روى سعيد بن المسيب مرفوعا لا ربا إلا فيما كيل ، أو وزن مما يؤكل ويشرب . رواه الدارقطني ، وقال الصحيح أنه من قول سعيد ومن رفعه ، فقد وهم ، ولأن فيه جمعا بين الأدلة فنهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل محمول على ما فيه معيار شرعي ، وهو الكيل ، والوزن ، إذ الطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين محمول على المطعوم ، لكن يترجح الأول : بأن الطعام بعض أفراد الصاع ، ويجاب بمخالفته له في المفهوم ، وهو مبني على اعتبار مفهوم اللقب ، وهو معتبر عندنا ، وما تقدم من أن العلة هي الثمنية فيهما علة قاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار الأكثر ونقضت طردا بالفلوس لأنها أثمان ، وعكسا بالحلي ، وأجيب لعدم النقدية الغالبة . قال في " الانتصار " : يجب أن يقولوا إذا نفقت حتى لا يتعامل إلا بها : إن فيها الربا لكونها ثمنا غالبا ، فعليها لا يجري في مطعوم لا يكال ، ولا يوزن كالرمان ، والسفرجل ، والأترج ، ولا في غير مطعوم كالأشنان ، والحديد ويجري في النقدين تبرهما ومضروبهما وجيدهما ورديئهما في قول الأكثر [ ص: 131 ] كيفما كانا ، وعنه : لا تباع صحاح بمكسرة لزيادته بالصناعة ، ولا عمل عليها لظواهر الأخبار .

                                                                                                                          ( ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا ، ولا ما أصله الوزن كيلا ) لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد ، أو استزاد فهو ربا . رواه مسلم وروى أبو داود من حديث عبادة مرفوعا البر بالبر مدي بمدي ، والملح بالملح مدي بمدي ، والشعير بالشعير مدي بمدي ، والتمر بالتمر فمن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى . فاعتبر الشارع المساواة في الموزونات بالوزن ، وفي المكيلات بالكيل فمن خالف ذلك خرج عن المشروع المأمور به ، إذ المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل هي المساواة في معياره الشرعي ، ولأنه متى باع رطلا من المكيل برطل حصل في الرطل الخفيف أكثر مما يحصل من الثقيل فيختلفان في الكيل ، وإن لم يتحقق التفاضل ، إذ الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل وكما لو باع بعضه ببعض جزافا إلا إذا علم مساواته في معياره الشرعي حالة العقد .

                                                                                                                          فرع : إذا باع صبرة بأخرى من جنسها ، وقد علما كيلهما ، أو تساويهما ، صح لوجود التماثل المشترط فلو قال : بعتك هذه بهذه مثلا بمثل ، فكيلتا فكانت سواء صح ، فإن زادت إحداهما : فرضي صاحب الناقصة بها ، أو رضي صاحب الزائدة برد الفضل جاز ، فإن امتنعا فسخ البيع بينهما ذكره القاضي .

                                                                                                                          ( فإن اختلف الجنس جاز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا وجزافا ) [ ص: 132 ] نص عليه ، وهو قول أكثر العلماء لقوله عليه السلام : فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ، ولأنه يجوز التفاضل فيه فجاز جزافا كالمكيل بالموزون ونصه : لا ، اختاره جماعة واحتج القاضي وأصحابه بنهيه عليه السلام في خبر جابر عن بيع الصبر من الطعام لا يدري ما كيل هذا ، وما كيل هذا أي : مجازفة وقياسا على الجنس الواحد ، والأول أصح ، ويحمل الخبر على الجنس الواحد جمعا بين الأدلة ، ثم هو مخصوص بالمكيل ، والموزون فيقاس عليه محل النزاع وقياسهم على الجنس الواحد فاسد لاشتراط التماثل فيه بخلاف الجنسين ( والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا ) فالجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها ، والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها ، وقد يكون النوع جنسا وبالعكس ، والمراد هنا الجنس الأخص ، والنوع الأخص فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهو جنس ، ثم مثله فقال : ( كالذهب ) ، وأنواعه المصري ، والأشرفي ( والفضة ) ، وأنواعها الكامل ، والظاهري ، ( والبر ) ، وأنواعه الحوراني ، والبقاعي ( والشعير ) ، وأنواعه العربي ، والرومي - وظاهر المذهب أنهما جنسان للنصوص ، وعنه : جنس واحد لحديث معمر بن عبد الله ، ولا حجة فيه مع أنه ينتقض عليهما بالذهب ، والفضة - ( والتمر ) ، وأنواعه البرني ، والمعقلي ، ( والملح ) ، وأنواعه البيروتي ، والحوراني . قاله في ( الطريق الأقرب ) ، والأبازير جنس ( وفروع الأجناس أجناس كالأدقة ، والأخباز ، والأدهان ) ؛ لأن الفرع يتبع الأصل فلما كانت أصول هذه أجناسا وجب أن تكون هذه أجناسا إلحاقا للفروع بأصولها ، فعلى هذا دقيق الحنطة جنس ودقيق الذرة جنس ؛ لأنهما من جنسين مختلفين ، وكذا البواقي ، وذكر في " النهاية " تخريجا أن الأدهان المائعة [ ص: 133 ] جنس ، وأن الفاكهة كتفاح وسفرجل جنس ، وحكم الخلول كالأدهان ، وعنه : أن خل التمر وخل العنب جنس ، والأدهان إن اختلفت مقاصدهما كدهن الورد ، والبنفسج ، والزنبق ، والياسمين واحد ؛ لأنها شيرج ، وإنما طيبت بهذه الرياحين فنسبت إليها ( واللحم أجناس باختلاف أصوله ) ، اختاره الأكثر ، وهو المذهب ؛ لأنها فروع أصول هي أجناس فكانت أجناسا كالأخباز ، فعلى هذا الضأن والمعز جنس واحد ، وفي " المغني " احتمال أنهما جنسان ( وعنه : جنس واحد ) ، اختاره الخرقي ، لأنه يشمله اسم واحد فكان جنسا كالطلع ويرجحه نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل . وهي كلها طعام وينتقض بعسل النحل ، والقصب ، والحديث محمول على ما إذا اتفق الجنس مع أن القاضي أنكر هذه الرواية عن أحمد ( وكذلك اللبن ) ، والأصح أنه يختلف باختلاف أصوله ، وقال ابن عقيل : لبن البقر الأهلية ، والوحشية جنس واحد على الروايات كلها ؛ لأن اسم البقر شملها ، وفيه نظر ؛ لأن لحمهما جنسان ، فكذا لبنهما ( وعنه : في اللحم أنه أربعة أجناس لحم الأنعام ولحم الوحش ولحم الطير ولحم دواب الماء ) ، اختارها القاضي في روايتيه وحمل كلام الخرقي عليه ، وفيه بعد ، واحتج بأن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها ، والقصد إلى أكلها فكانت أجناسا وضعفه في " المغني " ؛ لأن كونها أجناسا لا يوجب حصرها في أربعة أجناس لا نظير له ، وظاهره أنها لا تجري في اللبن ، وزاد في " الفروع " رابعة بأنها ثلاثة أجناس لحم أنعام وطير ودواب الماء ، لكن في " الكافي " أن الروايات الثلاث " كالمقنع " ثم قال : وفي الألبان من القول مثل ما في اللحم ؛ لأنها من الحيوانات يتفق اسمها ، أشبهت اللحم . وظاهر هذا أن الألبان يجري فيها خلاف اللحم . قال ابن المنجا : [ ص: 134 ] وهو أظهر لاتحادها في المعنى ، وفيه شيء لامتناعه في بعضها .

                                                                                                                          تنبيه : الدهن ، واللبن مكيلان ، وقيل : اللبن موزون ، وفي جواز بيعه باللبأ وجهان وخصهما القاضي بما إذا مست النار أحدهما ، وذكر المؤلف والسامري أنهما جنس واحد فيجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلا لا متفاضلا ، ولا بد أن تمس النار أحدهما .

                                                                                                                          ( واللحم ، والشحم ، والكبد ) ، والقلب ، والألية ( أجناس ) ؛ لأنها مختلفة في الاسم والخلقة ، فكانت أجناسا كبهيمة الأنعام ، فعلى هذا يجوز بيع جنس بآخر متفاضلا ، وقال القاضي : لا يجوز بيع اللحم بالشحم مطلقا إلا أن يتماثلا ، والمذهب الجواز ؛ لأنهما جنسان كالنقدين ، فإن منع منه لكون اللحم لا يخلو من شحم لم يصح لكونه لا يظهر ، وإن كان فيه شيء مقصود ، وقيل : الشحم ، والألية جنس وأطلق في " الفروع " الخلاف فيهما .

                                                                                                                          مسألة : اللحم الأبيض - كسمين الظهر - واللحم الأحمر جنس واحد على الأشهر . قاله القاضي وابن البنا ، وهو ظاهر كلام المؤلف ، وفي " المغني " : إن ظاهر كلام الخرقي أنهما جنسان لقوله : اللحم لا يخلو من شحم قال : ولو لم يكن هذا شحما ، لم يختلط لحم بشحم ، وفرع هو وصاحب " الشرح " على قوله : كل أبيض من الحيوان يذوب بالإذابة ويصير دهنا جنس واحد ، وصححه في " المغني " لقوله تعالى : حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما [ الأنعام : 146 ] فاستثنى ما حملت الظهور من الشحم ؛ لأنه يشبهه في لونه وذوبه ومقصده فكان شحما [ ص: 135 ] كالذي في البطن وهل لحم رأس جنس برأسه كالطحال ، أو نوع من لحم جنسه ؛ فيه وجهان .




                                                                                                                          الخدمات العلمية