الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أتى بالدليل العام على إجرامهم، أتبعه الدليل الخاص عليه وهو أيضا دليل على دليل فقال: يحلفون بالله أي: الملك الأعلى الذي لا شيء أعظم منه قدرا ما قالوا أي: ما وقع منهم قول، فقصر الفعل تعميما للمفعول إعلاما بأنهم مهما عنفوا على قول كائنا ما كان بادروا إلى الحلف على نفيه كذبا لأنهم مردوا على النفاق فتطبعوا بأعلى الكذب [ ص: 548 ] ومرنوا على سيئ الأخلاق، فصار حاصل هذا أنهم أطمعوا في العفو وحذروا من عذاب الباقين بسبب إجرامهم لأنهم يأمرون بالمنكر وما يلائمه مقتفين آثار من قبلهم في الانهماك في الشهوات غير مقلعين خوفا من الله أن يصيبهم بمثل ما أصابهم ولا رجاء له أن ينيلهم مما أعد للمؤمنين مجترئين على الأيمان الباطلة بأعظم الحلف على أي شيء فرض سواء كان يستحق اليمين أو لا غير خائفين من الله أن يهتكهم كما هتك غيرهم ممن فعل مثل أفعالهم; ثم دل على عظيم إجرامهم وما تضمنه قوله: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض - الآية. من كبائر آثامهم، ويجوز أن تكون هذه الآية واقعة موقع التعليل للآية التي قبلها بأنهم يقدمون على ما يستحقون به الجهاد والغلظة والنار من الحلف كذبا على نفي كل ما ينقل عنهم استخفافا بالله وبأسمائه " اتخذوا أيمانهم جنة " فتكون جوابا لمن كأنه قال: أما جهاد الكفار فالأمر فيه واضح، وأما المنافقون فكيف يجاهدون وهم يتكلون بلفظ الإيمان ويظهرون أفعال أهل الإسلام فقال: لأنهم يحلفون ولقد أي: والحال أنهم كاذبون لقد قالوا كلمة الكفر أي: الذي لا أكبر في الكفر منه، وهي تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا السياق لصنف يجددون الاستخفاف بالله تعالى [ ص: 549 ] بما دل عليه المضارع كل وقت، دل على أن إقرارهم بالإيمان كذب وأفعالهم صور لا حقائق لها، فعبر بالإسلام فقال: وكفروا أي: أظهروا الكفر بعد إسلامهم أي: بما ظهر من أفعالهم وأقوالهم، وذلك غاية الفجور; ولما كان أعلى شغف الإنسان بشيء أن تحدثه نفسه فيه بما لا يصل إليه، فيكون ذلك ضربا من الهوس قال: وهموا بما لم ينالوا أي: من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو إخراجه من المدينة، فجمعوا بين أنواع الكفر القول والفعل والاعتقاد، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في " مأواهم " والتقدير على هذا: يدخلون جهنم حالفين بالله: ما قالوا كلمة الكفر، ولقد قالوها، فيكون كقوله: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين من أحوالهم التي لا يحمل على فعلها إلا أمر عظيم، قال: وما أي: قالوا وفعلوا والحال أنهم ما نقموا أي: كرهوا شيئا من الأشياء التي أتتهم من الله إلا أن أغناهم الله أي الذي له جميع صفات الكمال وهو غني عن العالمين ورسوله أي: الذي هو أحق الخلق بأن يحوز عظمة الإضافة إليه سبحانه، وكان أذاهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله مع إعطائه لهم ما أغناهم بخلاف الآية السابقة، فكان الأقعد في ذمهم تأخير قوله: من فضله فهو [ ص: 550 ] من باب: ولا عيب فيهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما نبه على أن هذه المساوئ قابلوا بها المحسن إليهم، رغبهم بأنه قابل المتاب عليهم، ورهبهم بأنه لا مرد لما يريد من العذاب بقوله: فإن يتوبوا ولما كان المقام جديرا بأن يشتد تشوف السامع إلى معرفة حالهم فيه، حذف نون الكون اختصارا تنبيها على ذلك فقال: يك أي: ذلك خيرا لهم من إصرارهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان للنفوس من أصل الفطرة الأولى داعية شديدة إلى المتاب، وكان القرآن في وعظه زاجرا مقبول العتاب عظيم الأخذ بالقلوب والعطف للألباب، أشار إلى ذلك بصيغة التفعيل فقال: وإن يتولوا أي: يكلفوا أنفسهم الإعراض عن المتاب يعذبهم الله أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلما بحوله وقوته عذابا أليما أي: لا صبر لهم عليه في الدنيا أي: بما هم فيه من الخوف والخزي والكلف وغيرها والآخرة أي: بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه وما لهم في الأرض أي: التي لا يعرفون غيرها لسفول هممهم من ولي أي: يتولى أمورهم فيصلح ما أفسد العذاب منهم أو يشفع لهم ولا نصير أي: ينقذهم; وأما السماء فهم أقل من أن [ ص: 551 ] يطمعوا منها بشيء ناصر أو غيره وأغلظ أكبادا من أن يرتقي فكرهم إلى ما لها من العجائب وما بها من الجنود; وسبب نزول الآية على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا في ظل شجرة فقال: سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا، فأنزل الله الآية; وقال الكلبي : نزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم فقال الجلاس: لئن كان محمدا صادقا لنحن شر من الحمير، فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل، إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قاله الجلاس، فقال الجلاس: كذب علي يا رسول الله! فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر ، وقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر [ ص: 552 ] رضي الله عنه يديه إلى السماء فقال: اللهم! أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين! فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ: فإن يتوبوا يك أي: التوب خيرا لهم فقام الجلاس فقال: يا رسول الله! أسمع الله قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا مانع من أن يكون كل ذلك سببا لها كما تقدم ويأتي، والأوفق لها في السببية الخبر الأول للتعبير في الكفر ب: "أل" المؤذنة بالكمال، ومن شتم نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ارتكب كل كفر، وفي الآية دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للإيمان - كما قال أبو حيان وقال: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وقال مالك : لا تقبل، فإن جاء تائبا من قبل نفسه من قبل أن يعثر عليه قبلت توبته.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية