الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1274 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          ولا يجوز الصلح في غير ما ذكرنا من الأموال الواجبة المعلومة بالإقرار والبينة ، إلا في أربعة أوجه فقط - : في الخلع ونذكره إن شاء الله تعالى في : ( كتاب النكاح ) قال الله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } .

                                                                                                                                                                                          أو في كسر سن عمدا ، فيصالح الكاسر في إسقاط القود [ ص: 472 ] أو في جراحة عمدا عوضا من القود أو في قتل نفس عوضا من القود بأقل من الدية ، أو بأكثر ، وبغير ما يجب في الدية .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : ما ذكرنا قبل من قول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } .

                                                                                                                                                                                          وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يحل إعطاء مال إلا حيث جاء النص بإباحة ذلك أو إيجابه .

                                                                                                                                                                                          ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } والصلح شرط فهو باطل إلا حيث أباحه نص ولا مزيد ، ولم يبح النص إلا حيث ذكرنا فقط .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق أبي داود نا مسدد نا المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : { كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بكتاب الله القصاص فقال ابن النضر : والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم ، قال : يا أنس كتاب الله القصاص ، فرضوا بأرش أخذوه } .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فإن هذا الخبر رويتموه من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس فذكر أنها كانت جراحة ، وأنهم أخذوا الدية .

                                                                                                                                                                                          ورويتموه من طريق بشر بن المفضل ، وخالد الحذاء ، وكلاهما عن حميد الطويل عن أنس ، فذكر أنهم عفوا ولم يذكر دية ولا أرشا .

                                                                                                                                                                                          ورويتموه من طريق أبي خالد الأحمر ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، كلاهما عن حميد الطويل عن أنس فذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقط ؟ قلنا : نعم ، وكل ذلك في غاية الصحة وليس شيء منها مخالفا لسائر ذلك ; لأن سليمان ، وثابتا ، وبشرا ، وخالدا ، زادوا كلهم على أبي خالد ، والأنصاري : العفو عن القصاص ، ولم يذكر الأنصاري ولا أبو خالد عفوا ، ولا أنهم لم يعفوا ، وزيادة العدل مقبولة ، وزاد سليمان ، وثابت على الأنصاري ، وأبي خالد ، وبشر ، ذكر قبول الأرض [ ص: 473 ] ولم يذكر هؤلاء خلاف ذلك ، وزيادة العدل مقبولة ، وقال ثابت : دية ، وقال سليمان : أرش .

                                                                                                                                                                                          وهذا ليس اختلافا ; لأن كل دية أرش وكل أرش دية ، إلا أن من ذلك ما يكون مؤقتا محدودا ، ومنه ما يكون غير مؤقت ولا محدود ، والتوقيت لا يؤخذ إلا بنص وارد به ، فوجب حمل ما رويناه على عمومه ، وجواز ما تراضوا عليه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما اختلاف ثابت ، وسليمان ، فقال أحدهما - وهو ثابت - : جراحة وأن أم الربيع التي أقسمت أن لا يقتص منها ، وقال سليمان : كسر سن ، وأن أنس بن النضر أقسم أن لا يقتص منها - فيمكن أن يكونا حديثين في قضيتين ، ويمكن أن يكون حديث واحد في قضية واحدة ; لأن كسر السن جراحة ; لأنه يدمي ويؤثر في اللثة فهي جراحة ، فزاد سليمان بيانا إذ بين أنه كسر سن - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما الجراحة : فروينا من طريق محمد بن داود بن سفيان عن عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاجه رجل في صدقته ، فضربه أبو جهم فشجه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : القود يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا ؟ فلم يرضوا ، فقال : لكم كذا وكذا ؟ فلم يرضوا ، فقال : لكم كذا وكذا ، فرضوا } .

                                                                                                                                                                                          فهذا الصلح على الشجة بما يتراضى به الفريقان .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فإن هذا خبر رويتموه من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق بالإسناد المذكور فيه ، وفيه : { فضربه أبو جهم } ولم يذكر شجه ؟ قلنا : هذه بلا شك قصة واحدة ، وخبر واحد ، وزاد محمد بن داود بيان ذكر شجه ، ولم يذكرها محمد بن رافع ، وزيادة العدل مقبولة .

                                                                                                                                                                                          وأما الصلح في النفس : فإننا روينا من طريق مسلم قال : نا زهير بن حرب نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي نا يحيى بن أبي كثير نا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف [ ص: 474 ] حدثني أبو هريرة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد فتح مكة : ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يفدي ، وإما أن يقتل } .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فهذا خبر رويتموه من طريق أبي شريح الكعبي { : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين : بين أن يأخذوا العقل ، وبين أن يقتلوه } ؟ .

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ، كلاهما صحيح وحق وجائز أن يلزم ولي القتيل القاتل الدية وجائز أن يصالحه حينئذ القاتل بما يرضيه به ، فكلا الخبرين صحيح - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية