الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قالوا: وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به، قالوا: لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم، وكل صفة قائمة به وهو العرض. والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد، وهو أصل «علم الكلام» الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه -وسيأتي الكلام على هذا الدليل في موضعه- قالوا: فلا معنى لإنكار ما هو الحق الثابت بالشرع والعقل، لاستلزام ذلك بطلان حجة مبتدعة أنكرها السلف والأئمة، لأجل دعوى من ادعى من أهلها أنها أصل الدين، الذي لا يعلم الدين إلا به، فإنما هو أصل الدين الذي ابتدعوه، كما قال تعالى: [ ص: 374 ] أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [الشورى: 21] ليست أصلا لدين الله ورسوله; بل أصل هذا الدين هو ما بينه الله ورسوله من الأدلة، كما هو مبين في موضعه; إذ من الممتنع أن يبعث الله رسولا يدعو الخلق إليه، ولا يبين لهم الرسول أصل الدين الذي أمرهم به، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وعلى هذا التقدير فلا يكون فيما أثبته هؤلاء ما يخالف الوهم والخيال، فتنقطع مادة التزامه بالكلية.

وقال قوم: بل نقول ما وصف الله به من العلم والقدرة، تسمى صفة ومعنى، ولا نسميه عرضا، لأن العرض هو ما يعرض ويزول، وصفات الله لازمة، بخلاف صفة المخلوق فإنها عارضة، والتزموا لذلك وغيره أن صفة المخلوقات -وهي الأعراض- لا يبقى منها شيء زمانين.

ثم أئمة هؤلاء قالوا: وكذلك ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، نقول: إنه من جنس العلم والقدرة والإكرام; بل ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، هو مما يوصف من الله ويوصف الله به ولا نسميه جسما، لأنها تسمية مبتدعة وموهمة معنى باطلا، ولا نقول ذلك من جنس العلم والقدرة ونحوهما، بل نقول: كما يعلم الفرق في صفاتنا بين العلم والقدرة، وبين الوجه واليد ونحوهما، فإن الحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا، كما يفرق في حقنا بين العلم والقدرة والسمع والبصر، فلكل [ ص: 375 ] صفة من هذه خاصة ليست للأخرى، كذلك هذه العقيدة في حق الله; وإن قيل: إن ذلك يقتضي التكثر والتعدد. وكذلك نفرق بين الوجه واليد والعين وبين العلم والقدرة ونحو ذلك. وإن قيل: هذا يقتضي التجسيم والتركيب والتأليف ونحو ذلك. فسيأتي الكلام المفصل على هذا في موضعه إن شاء الله، لكن علمنا أن ذاته ليست مثل ذوات المخلوقين، وعلمنا أن هذه الصفات جميعها: ما يفهم أنه عين يقوم بغيره، وما يفهم منه أنه معنى قائم بغيره، نعلم أن جميع صفات الرب ليست كصفات المخلوقين، فإن الشرع والعقل قد نفى المماثلة، والشرع والعقل يثبتان أصل الصفات، كما يثبتان الذات; فإن إثبات ذات لا تقوم بنفسها ممتنع في العقل، وإثبات قائم بنفسه يمتنع وصفه بهذه الصفات ممتنع في العقل; بل العقل يوجب أن الذات القائمة بنفسها لا تكون إلا بمثل هذه الصفات. وعلى قول هؤلاء فلم يثبت شيء على خلاف حكم الوهم والخيال. [ ص: 376 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية