الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم : ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها " ما فعلوه " يقول : ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله طاعة لله ولرسوله " إلا قليل منهم " .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

9918 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا [ ص: 526 ] أنفسكم " يهود - يعني أو كلمة تشبهها والعرب - كما أمر أصحاب موسى - عليه السلام - .

9919 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم : كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر ، لم يفعلوا إلا قليل منهم .

9920 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم : افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا ، فقال ثابت : والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا ، فأنزل الله في هذا : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا " .

9921 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : لما نزلت : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي .

واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله : " إلا قليل منهم " .

فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع " قليل " ؛ لأنه جعل بدلا من الأسماء [ ص: 527 ] المضمرة في قوله : " ما فعلوه " ، لأن الفعل لهم .

وقال بعض نحويي الكوفة : إنما رفع على نية التكرير كأن معناه : ما فعلوه ، ما فعله إلا قليل منهم ، كما قال عمرو بن معد يكرب :


وكل أخ مفارقه أخوه ، لعمر أبيك إلا الفرقدان



قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : رفع " القليل " بالمعنى الذي دل عليه قوله : " ما فعلوه إلا قليل منهم " ؛ وذلك أن معنى الكلام : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم ، فقيل : ما فعلوه على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " [ ص: 528 ] ، ثم استثنى " القليل " فرفع بالمعنى الذي ذكرنا ، إذ كان الفعل منفيا عنه .

وهي في مصاحف أهل الشام : ( ما فعلوه إلا قليلا منهم ) . وإذا قرئ كذلك ، فلا مرزئة على قارئه في إعرابه ؛ لأنه المعروف في كلام العرب ، إذ كان الفعل مشغولا بما فيه كناية من قد جرى ذكره ، ثم استثني منهم القليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية