الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ( 219 في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم

                                                          * * *

                                                          أسئلة ثلاثة وإجابتها ، وكلها يتصل بإصلاح المجتمع ، وتقوية بنيانه ، وكل واحد منها يتجه إلى ناحية إصلاحية ، وكلها يتلاقى نحو مقصد واحد ، وهو إقامة بناء المجتمع على دعائم من الفضيلة والمودة والتعاون على الخير ، وعدم التعاون على الإثم والعدوان ، وقد جاءت هذه المعاني الإصلاحية التي توثق الوحدة ، وتقوي الروابط بعد الأمر بالجهاد مع بعض أحكام القتال ; لأن القتال حماية للدولة من أن [ ص: 696 ] يلتهمها العدو الخارجي ، والإصلاح في هذه المسائل الثلاث يتناول حماية الأمة من أن تأكلها نيران العدو الداخلي ، وهو التنابذ ، وأن تنظر كل طائفة للأخرى نظر العدو المترصد ، لا نظر العضو المتعاون والأخ المتودد ، ولأن الوحدة الداخلية والاتحاد المكين عدة القتال ، وذخيرة الحرب ، فقوة الحرب تستمد من السلم ، ولأن مقصد الإسلام الأسمى هو إيجاد جماعة متآخية متحابة على أسس من الفضيلة والخلق الكريم ولكنه ما إن دعا بدعايته ، حتى خرج عليه إخوان الشيطان يحاولون أن يبيدوه وأن يقضوا عليه في مهده ، وفتن المسلمون في دينهم ، وعذبوا في إيمانهم عذابا شديدا فأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وساروا على سنة الوجود ، وهو أن يدافعوا ذلك العدو المعتدي الذي يريد الفتك بهم ، حتى إذا دفعوه وأمنوا شره ، أو فلوا قوته ، وخضدوا شوكته ، اتجهوا إلى إقامة مدينتهم الفاضلة ، وإرساء قواعدها وحققوا بهذا القصد الأول ، ومكنوا لأنفسهم وأعدوا بالفضائل عدة أقوى لمنازلة الأعداء .

                                                          وقد ابتدأ القرآن الكريم في إصلاح المجتمع الإسلامي بهذه المسائل والإجابة عنها ; لأنها هي التي تنفي الأذى وتدفع الخطر الاجتماعي ، ومن المقرر عند علماء الإسلام أن التخلية مقدمة على التحلية ، أي أن نفي الإثم مقدم على جلب النفع ، وأن دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة ، إذ إنه لا منفعة مع أن الفساد يشيع ، والداء يستشري ، والأذى يستمكن ، ومثل الجماعة في علاجها من أدوائها ، كمثل الجسم الإنساني في علاجه من أمراضه ، فإن الطبيب النطاسي لا يبادر بتقوية الجسم ويترك الجراثيم تفتك به بل يجتهد أولا وبالذات في محاربة هذه الجراثيم والقضاء عليها ، ثم يقوي الجسم ، وإن عمد إلى التقوية في أثناء العلاج فلتقوى المقاومة ، ولتزداد الحصانة ، ولتشتد المناعة وغرضه الأول محاربة الآفات ، وكذلك الأمر في إصلاح الأمم : يبتدئ بإماطة الأذى الذي يفتك بها ، ثم يثني بأعمال الإنشاء ، التي تقيم البناء .

                                                          [ ص: 697 ] وإن هذه الأسئلة الثلاثة - هي : السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن مقدار ما ينفق والسؤال عن اليتامى وإصلاحهم .

                                                          أما السؤال الأول ، فقد جاء فيه قوله تعالى :

                                                          يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما السؤال عن الخمر والميسر هو بلا شك عن الحل والتحريم لا عن الحقيقة والذات ، فإنهم يعرفونهما بلا شك ، وكان الأغنياء وذوو المقدرة فيهم منغمسين فيهما ، ولذلك كان الجواب مشيرا إلى عدم رضا الشارع عنهما أو مشيرا إلى تحريمهما ، لأن ما غلبت مضرته على منفعته - كما هو حكم الإسلام - يكون حراما ، ولا يكون حلالا ، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك ، فكان يحق على المؤمن النقي النفس ، الذي خلص من أدران الهوى أن يكتفي بذلك ويجتنبهما ، وكذلك فعل خواص المؤمنين ، والعلية من أصحاب الرسول الأمين كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين المقربين . ولقد كان عمر رضي الله عنه يحس بأن شرب الخمر لا يسوغ في الإسلام ، ولذا كان يدعو الله قائلا : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، خصوصا بعد أن نزلت الآيات التي تشير إلى التحريم ، ولا تصرح به .

                                                          ولماذا كان السؤال عن الخمر والميسر ، وممن كان السؤال ؟ إن السؤال بلا ريب من المؤمنين ، ولم يكن من غيرهم ، لأنهم رأوا الخمر تذهب الرشد ، وتضعف العقل ، وتجعل المرء يقع فيما لا يحسن ، حتى أنه ليروى أن حمزة بن عبد المطلب شرب الخمر ، فعقر ناقة لعلي بن أبي طالب قد أعدها ليحتطب عليها ، ويجمع بذلك مهر فاطمة الزهراء ، فشكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمه ، ولما خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان سكران ، فقال للرسول الكريم : ما أنتم إلا عبيد أبي ! فما كان المؤمنون الأولون وقد أرهف الإيمان قلوبهم وزكت أرواحهم ، وطهرت نفوسهم ليرضوا عن الخمر ، وإن لم يصرح القرآن بالتحريم ، ولذلك كثر سؤالهم عنها ، ليكون القطع في أمرها .

                                                          [ ص: 698 ] ولقد نزل في الخمر أربع آيات من القرآن الكريم :

                                                          أولها : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون

                                                          والثانية : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس

                                                          والثالثة : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

                                                          والرابعة : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون

                                                          ولقد اتفق العلماء على أن الآية الأولى أول ما نزل في القرآن خاصا بالخمر ، مشيرا إليها ، لأنها نزلت بمكة ، إذ إنها من سورة النحل وهي مكية . وقد اتفقوا أيضا على أن آية المائدة وهي الرابعة آخر آية نزلت في الخمر ، لأنها القاطعة في التحريم ; ولذا قال عمر عندما سمع قوله تعالى في آية المائدة : فهل أنتم منتهون انتهينا ، وشفى ذلك ما في نفس الفاروق من الخمر . والأكثرون على أن قوله تعالى : يسألونك عن الخمر سبقت في النزول آية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولكن يميل بعض المتأخرين إلى أن آية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى مقدمة على آية يسألونك عن الخمر لأن هذه فيها إشارة إلى التحريم المطلق لأنه من المقررات الشرعية أنه إذا كان الضرر أكبر من النفع ، فإن الحكم هو التحريم ، وكذلك كل المحرمات ضررها أكبر من نفعها ، ولا يكاد يوجد أمر يكون ضارا ضررا محضا ، إذ إنه ما من ضار إلا فيه نفع ، وما من شر إلا كان فيه بعض الخير ، وما من نفع إلا تأشب به بعض الضرر ، والعبرة في التحريم بالغالب فإن غلب النفع كانت الإباحة ، وإن غلب الضرر كان التحريم ، فإذا كانت آية يسألونك عن الخمر قد صرحت بعلة التحريم فقد أومأت إلى التحريم المطلق ، أما آية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فهي لم تصرح بالتحريم المطلق ، [ ص: 699 ] بل أومأت إلى التحريم المؤقت أو العلل بكونه لأجل الصلاة ، وإذا كان الترتيب في النزول لأجل التدرج في المنع ، فالمنطق يوجب أن يكون ما فيه إشارة إلى التحريم المطلق مؤخرا عما فيه إشارة إلى التحريم المؤقت ، والعلل بكونه لأجل الصلاة .

                                                          وقبل أن نترك الكلام في آيات الخمر عامة إلى الكلام في هذه الآية الخاصة يسألونك عن الخمر لا بد أن نشير إلى معنى خاص بالآية الأولى وهو قوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فقد فهم بعض الناس أنها تبيح الخمر ، ومن المقررات العلمية في الإسلام أن ما أباحه الله لا يرد نص صريح بإباحته بل يكون متروكا لا نص فيه بالإباحة ولا بالمنع ، ولذا يقول علماء الأصول إنه لا يكون مباحا ، بل يكون في مرتبة العفو لأن ما فيه من أسباب التحريم قائم ، ولكن لا نص يمنع ، فيكون محل عفو الله ، إذ لا عقوبة من غير نص ، فكيف تكون هذه الآية مشيرة بالإباحة ; والجواب عن ذلك أن ذا الفهم المستقيم لا يأخذ من الآية الأولى دلالة على الإباحة لا بالإشارة ولا بالعبارة ، بل إنها تدل على التحريم بالإشارة ، وإن لم تكن قريبة كالإشارة في قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر ووجه الإشارة إلى التحريم في تلك الآية أن الله سبحانه وتعالى يمن عليهم بنعمه وذكرها لهم ، فذكر أنه سبحانه وتعالى رزقهم ثمرات النخيل والأعناب فاتخذوا منه سكرا ، ورزقا حسنا ، أي أنهم أخذوا منه نوعين متقابلين : أحدهما مسكر والآخر شراب حسن وطعام جيد سماه رزقا حسنا ، فتسميته أحد النوعين بأنه رزق حسن معنى ذلك أن مقابله ليس رزقا حسنا ، بل هو استعمال سيئ لما أنعم الله به ، وفي ذلك بلا ريب إشارة إلى أنه مبغض غير مستحسن ، ولا يقر من يتخذه كذلك على ما يفعل ، فليس في هذه الآية إذن إشارة إلى الإباحة بل فيها إشارة إلى التحريم أو تصريح بعدم الاستحسان أو ما هو في حكم التصريح من حيث الدلالة اللغوية .

                                                          وبعد ذلك نتكلم عن حقيقة الخمر عند الفقهاء ، ثم نتكلم عما فيها من إثم ، وما فيها من نفع ، ووجه الكبر في إثمها والقلة في نفعها ، وقبل أن نخوض في كلام الفقهاء نذكر الاشتقاق اللغوي لكلمة الخمر : [ ص: 700 ] أصل كلمة " خمر تستعمل بمعنى الستر ، وبمعنى " الترك ، وبمعنى الاختلاط فيقال خمر بمعنى ستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها ، ومنه : خمروا آنيتكم أي غطوها ، ويقال للشجر الملتف ( خمرا ) لأنه يستر بعضه بعضا ومنه قول القائل : دخل في غمار الناس وخمارهم ، أي اختفى فيهم وستر بهم .

                                                          ومن استعمالها بمعنى الترك قولهم : اختمر العجين ، أي ترك حتى بلغ إدراكه ، وقولهم خمر الرأي واختمر أي ترك حتى تبين وجه الحق فيه ومن استعمالها بمعنى المخالطة أن يقول القائل : ما خامرني شك ، أي خالطني شك . والخمر التي تسكر فيها المعاني الثلاثة ، فهي تستر العقل ، وهي لا تكون كذلك مسكرة إلا إذا تركت مدة طالت أو قصرت حتى تتكون منها المادة المسكرة ، وهي تجعل الشارب لها يختلط عقله ، ويغلب صوابه ، فلا يعرف الحق من الباطل ، واللائق من غير اللائق ، والضار من النافع .

                                                          وقد اختلف الفقهاء في مدلول كلمة خمر التي نص عليها القرآن بالتحريم مع أن كل مادة من شأنها الإسكار تكون حراما ، إنما موضع الخلاف في الأمر الذي حرم بنص الآية أيشمل المسكرات كلها ، فيدخل في عموم التحريم بالنص كل الأنبذة وكل المواد التي من شأنها أن تسكر ، وإن لم يسكر المتناول فعلا سواء أكانت تلك المواد من عصير العنب أم كانت من غيره . . أم أن النص الوارد بالتحريم في الخمر هو فيما كان من عصير العنب ، وغيره من المحرمات ثبت تحريمه بالقياس عليه لتحقق علة التحريم فيه ، ولعموم النص في الحديث " كل مسكر حرام " ؟ .

                                                          قال الجمهور الأول ، وهو أن كلمة خمر تشمل كل مسكر ، وحجتهم في قولهم أصل الاشتقاق لأن كل مسكر يتلاقى مع أصل الاشتقاق في الكلمة ، لأنه يستر العقل ، ويجعل الشارب مختلط الفكر مضطرب النظر لا يعرف الحق من الباطل ، وقد تبين من قبل أصل الاشتقاق . وقد روى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 701 ] قال : " كل مسكر خمر " فكان هذا تبيينا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعنى كلمة خمر ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين الأول للقرآن الكريم ، فلا تفسير وراء تفسيره ، ولقد روي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من العنب خمرا وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا وإن من البر خمرا ، وإن من الشعير خمرا " فلم يقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسيره على عصير العنب ، بل شمل أكثر المواد التي كان يتخذ العرب منها خمورهم .

                                                          ولقد فهم الصحابة ، وهم من العرب الذين أوتوا علم هذه اللغة ، تحريم كل مسكر عندما نزل قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ولذلك أراقوا كل الأنبذة التي كانوا يتناولونها ، وليس فيها شيء من عصير العنب . ولقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال : " حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمرا من الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر " .

                                                          هذا تفسير الجمهور لكلمة خمر الواردة في القرآن الكريم ، ولقد خالف أبو حنيفة وأصحابه الجمهور في تفسير كلمة خمر التي ورد بها النص القرآني ، فقالوا : إنها النيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، وما عدا ذلك لا يسمى خمرا ، وإن كان مسكرا محرما . وترى أنهم لا يعدون حتى كل عصير العنب من الخمر ، فلا يدخل في كلمة الخمر المطبوخ من ماء العنب ، إنما كلمة خمر مقصورة على النيئ منه غير المطبوخ ، ويستدلون لقولهم هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بنشوان فقال : " أشربت خمرا ؟ " فقال : ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله . قال : " فماذا شربت " ؟ قال : الخليطين . فحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخليطين " . فنفى الشارب اسم الخمر عن [ ص: 702 ] الخليطين بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم ينكره عليه ، ولو كان ذلك يسمى خمرا من جهة لغة أو شرع لما أقره - صلى الله عليه وسلم - .

                                                          وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع ، - وقد سئل عن الأشربة : " حرام الخمر بعينها والمسكر من كل شراب " .

                                                          ومهما يكن من الاختلاف في تفسير كلمة خمر ، فقد اتفق الفقهاء على أن كل مادة من شأنها الإسكار تكون حراما وتأخذ حكم الخمر تماما ، وإنما موضع الخلاف هو في أن كل المسكرات داخلة في النهي بنص الآية أم داخلة بالقياس وبالحديث ; قال الجمهور الأول ، وقال الحنفية الثاني .

                                                          وإن الأحاديث الصحيحة تثبت أن علة تحريم الخمر إسكارها أو تخديرها على حد تعبير العلماء اليوم ، فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " ، وإذا توافرت هذه العلة في شراب كان حراما قليله وكثيره ; لأنه يكون حرام التناول في الكثير لذاته ، وفي القليل لسد الذريعة ، ولأنه إذا كان مسكرا فإنه لا يكون عند الأكثرين طاهرا ، ولأنه إذا كان مسكرا في ذاته فإن قليله مهما قل يكون مخدرا . وفي الحقيقة أن المسكر حرام ، لا لأنه مسكر فقط ، بل لأنه يميت الضمير ، أو يخفت صوت الوجدان الخلقي ، ويضعف صوت النفس اللوامة ، وإن ذلك يحدث في القليل والكثير ، ويحدث لكل الناس ، حتى أولئك الذين لا تظهر عليهم أمارات السكر من اضطراب القول واختلاط مظاهر التفكير . وتعجبني كلمة في هذا قالها الفيلسوف تولستوي فقد قال في كتابه الآفات الاجتماعية : ( إن النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - حرم الخمر لأنها تميت الوجدان أو تضعفه ) . والخمر كذلك حقيقة ، لأن الرجل يؤنبه ضميره على فعل ، فلا يتناول الكأس حتى يزول تأنيب الضمير ، والرجل يهم أن يقدم على الشر فيستيقظ وجدانه ، ويقف حائلا بينه وبين فعله ، فلا يلبث أن يتناول الكأس أو بعضه حتى تزول محاجزات الضمير ، ويندفع في الشر اندفاعا لا يقف في [ ص: 703 ] سبيله واعظ من ضمير ، أو زاجر من نفس لائمة ، ويستوي في ذلك قليل الخمر وكثيره ، كما يستوي في ذلك من لا يسكر ومن يسكر من الشرب .

                                                          بعد هذا نشير في إلمامة موجزة إلى معنى قوله تعالى : فيهما إثم كبير وإثمهما أكبر من نفعهما ولنبتدئ الآن ببيان إثم الخمر ثم نعقب على ذلك ببيان إثم الميسر .

                                                          الإثم في أصل معناه : اسم لكل فعل معوق مبطئ لا يوصل إلى الأغراض والنتائج ، ثم أطلق في لغة القرآن على أفعال الشر ، لأن الشر يعوق الإنسان عن الوصول إلى الغاية الإنسانية الكاملة ، ويبطئ عن الوصول إلى الثواب في الآخرة .

                                                          وقد تطلق كلمة إثم في لغة القرآن الكريم ويراد منه العذاب والعقاب ومن ذلك قوله تعالى : ومن يفعل ذلك يلق أثاما

                                                          والمراد من الإثم في الآية الكريمة ما يقابل النفع وهو الضرر . وفي الحقيقة أن الخمر فيها ضرر لا شك في ذلك ، وضررها أكبر من نفعها بلا ريب ، وحسبها ضررا أمران لا شك في وجودهما ، ولا ريب في أنهما يترتبان عليها :

                                                          أولهما - إضعاف صوت الضمير ، ولا شيء يضر في الاجتماع أكثر من صوت الضمير أو إضعافه ، لأن الخلق الاجتماعي الذي يترتب عليه الإلف ، والائتلاف بين الناس أساسه الحياء ، والإحساس بسلطان الجماعة لائمة ومهذبة ، وتبادل الشعور بينه وبين غيره ، ثم النفس اللوامة ، وإن الكأس تذهب بكل هذا : تذهب بالحياء والحياء خير كله ، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت ، ويندفع الشخص في مخالفة الجماعة غير هياب ولا وجل ، وكثيرا ما يكون القصد الأول من الشرب خرق حجاب الحياء ، لينطلق بالقول والفعل بما لا يليق .

                                                          وإن ذلك الأمر يعم كل شارب ، سواء أكان ممن تقرب سكرتهم ، أم كان ممن تبعد ، وسواء أكان المقدار قليلا ، أم كان كثيرا ، فلا يكاد يكون شارب بعد شربه في حيائه الذي كان عليه من قبل ، وفي قوة وجدانه وضميره التي كانت له قبل أن يتناول ذلك السم الخلقي الذي يفتك بالأخلاق والفضيلة ، ولذلك سميت الخمر بحق [ ص: 704 ] أم الخبائث ; لأنها بعد تناولها تسهل كل خبيثة كانت مستعصية لا تقبلها النفس ويعافها الشارب .

                                                          ثاني الأمرين اللذين يترتبان على الشرب بلا مراء : ذهاب الرشد ، أو إضعاف الإدراك ووزن الأمور وزنا صحيا ، وإنا والله لنعجب لأولئك الذين يرضون الضلال بدل الرشد ، والغفلة بدل الصحو ، وقد كان في الجاهلية رجال عافوا ذلك ، ولم يرتضوه لأنفسهم ، وقد قيل للعباس بن مرداس ، وكان لا يشرب : ( ألا تشرب الخمر ، فإنها تزيد في حرارتك ؟ ) فقال : ( ما أنا آخذ جهلي بيدي ، فأدخله في جوفي ، ولا أرضى بأن أصبح سيد القوم وأمسي سفيههم ) .

                                                          ولكن الفوضى الخلقية التي صار عليها الناس اليوم جعلتهم يغفلون عن هذه الحقائق المقررة الظاهرة ، ولا يلتفتون إليها ، بل لقد ذهب بعضهم إلى المغالاة فزعم أنها ضرورية للمدنية اليوم ، فإن الآلام النفسية قد اشتدت ، والمحن قد كثرت ، ولا دواء لهذا الداء إلا الخمر ، فهي اليوم دواء لا داء ، وإنها علاج المجتمع ! ذلك قولهم بأفواههم ، وذلك تفكيرهم في أهوائهم .

                                                          ونحن نقول : إنها تناسب مدنيتهم ، وهي خاصة من خواصها ، لأنها مدنية اتسمت بالرذيلة ، وصارت شعارها ، فكان من المناسب أن تكون الخمر دواءها ; لأن الدواء يكون من جنس الداء ، وأم الخبائث هي التي ترأم الخبائث ، وتكنفها وتحوطها وترعاها ، فلا عجب إذا رأينا التفكير المعكوس هو الذي يدافع عن الخمر ، ولا بد أن قائله قاله ورائحتها تنبعث من فيه ! .

                                                          من ذا الذي يقول إن تفاقم الرذائل داع للانغمار فيها ; إنه كلما تفاقم الشر وجب جمع العزائم لمحاربته ، وإن المحن النفسية إذا اشتدت وجب تقوية الوجدان الخلقي ، والضمير الخلقي ، وتربية الناس على ضبط النفس والصبر الجميل ، وإيقاظ النزوع الديني ، والعزاء الروحي ، أما إذا تألمت النفس وقوي الضمير ، واشتد اللوم النفسي فأخذ المتألم الكأس ليخفي الألم وليضعف صوت الضمير ، فإنه كالجندي يفر من مواطن الجهاد ، وميدان العمل إلى أن يكون في موضع الهمل ، فهل يرضى كريم [ ص: 705 ] لإنسانيته بتلك المنزلة الهون فيميت آدميته ويقتل خلقه ، ويذهب بمروءته ورشده ، ويكون ملهى الصبيان ، يتلعب بكرامته الغلمان ، أو على الأقل يعمل على أن يفسد تقديره ووزنه للأمور ، لأن معرفتها على حقيقتها تؤلمه ! وهل يذهب بأسباب المحن غفلته عنها وابتعاده عن الإحساس بها ! ! كلا إنه يتردى بالخمر من محنة إلى محنة فغفلته عن المحنة ، بالخمر تدفعه إلى ثانية ثم إلى ثالثة ، وهكذا تتوالى عليه المحن بها ، حتى يضيع نفسه ، وأهله ، وأولاده ، وأصحابه ولا يبقى معه إلا إخوان الشر ، ودعاة الفساد !

                                                          هذه إشارة إلى مضار الخمر المعنوية والاجتماعية ، أما مضارها الجسمية ، فيكاد العلم الحديث يثبت أنه لا شيء يدخل الجسم أضر عليه من الخمر ، فهي تأكل الكبد وتضخمه ، وتفسد الكلية ، وتضعف أنسجة الجسم وتنهك الأعضاء الداخلية العاملة ، وتفقد الشهية للطعام ، وتفسد المعدة وتحدث تصلبا في الشرايين وتمددا فيها ، وأحيانا يموت السكير فجأة لهذا الداء ، والخمر تضعف الحنجرة ، وشعب التنفس ، وتكثر السعال .

                                                          وقد أثبت التحليل الطبي أن الجسم لا يستفيد منها أية فائدة ، فإنها وإن كانت فيها مواد غذائية ، يذهب السم الذي صاحبها بفائدتها فهي في جملتها عقاقير سامة ، وما يحدث من نشاط في الجسم ونشوة عند شربها سببه أنها مواد غريبة على المزاج الجسمي ، فعناصر الجسم تقاومها وتدافعها وبهذه المقاومة والمدافعة يتولد الإحساس بالنشاط ، وإذا كانت الخمر في أحيان قليلة تقي من بعض الأمراض التي لا خطر منها ، فالضرر الناشئ عنها أشد من الأضرار الناشئة عما تدفعه ! .

                                                          وقد يقول قائل : إنها تتخذ دواء أحيانا ، ولذلك يتساهل بعضهم في ذلك ، ولكن وجدنا طبيبا إنجليزيا يصرح في قوة قائلا : ( أنا لا أعلم مرضا قط شفي من الخمر ) ! ويقول آخر أسكتلندي : ( الخمر لا تشفي شيئا ) ويقول ثالث : ( إن الخمر تدخل الجسم وتخرج منه ولا أثر لها إلا ما تحدثه من أضرار ) . وهكذا تتوارد [ ص: 706 ] أقوال الأطباء في أنها لا تصلح شفاء وإن كانت تقي في حالات قليلة من بعض أمراض لا خطر فيها ، وبهذا يصح الأثر عن السلف : " لا دواء في محرم " ، ولقد روى مسلم أن طارق بن سويد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه ، أو كره أن يصنعها ، فقال : إني أصنعها للدواء ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليس بدواء ولكنه داء " فما أصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه المبلغ عن ربه ، وكفى ذلك تصديقا .

                                                          وليست أضرار الخمر الجسمية والعقلية مقصورة على المتناول ، بل إنها تنتقل إلى ذريته من بعده ، إذ يكون النسل ضعيفا ضاويا ، في جسمه وعقله ، حتى يكون أقرب إلى الجنون، وأشد استعدادا له، فإن تناولها يجعل السكير ضعيف العقل ، إذ تضعف قواه العقلية شيئا فشيئا حتى يصير كالأبله ، وينتقل ذلك إلى ورثته . ولقد قال بنتام في كتاب " أصول الشرائع " ما نصه : ( النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله، وفي الأقاليم الجنوبية يصير كالمجنون، وقد حرمت ديانة محمد - صلى الله عليه وسلم - جميع المشروبات ، وهذه من محاسنها ) .

                                                          ولقد علم الأوربيون مضار الخمر علما يقينا، ووجدوا أن الإكثار منها بين أمم أفريقيا والشرق قد يبيدها، أو يفسد العناصر الصالحة فيها ; ولذا جاء في كتاب " الإسلام خواطر وسوانح " في عجز المدنية الأوربية عن إبادة المسلمين : ( إن المسكرات التي استعملها بعض الفاتحين لا تؤثر في أهالي الجزائر لكونهم يمقتونها مقتا شديدا ) .

                                                          ولكن المسلمين قد أصبح قادة الفكر فيهم لا يمقتونها اليوم ، فهل فتحت أبواب الفناء ، وزالت حواجز البقاء ; اللهم أصلح الأحوال، وقو العزائم، وهيئ لنا من أمرنا رشدا ! .

                                                          هذه بعض آثار الخمر، فما منافعها ؟ والله العلي القدير لولا أن القرآن الكريم ذكر أن فيها منافع للناس ما ظننت أن فيها نفعا ولو بطريق الشبهة ، ولكن هكذا قال [ ص: 707 ] القرآن ، وليس لنا إلا الإيمان . ولقد ذكر بعض العلماء منافع ظاهرية لها ، منها أنها وقاية أحيانا من بعض جراثيم الأمراض بما فيها من كحول، ومنها أنها قد تثير النخوة، ومنها أنها تسلي، ومنها أنها تسخي البخيل أحيانا، وأن ما يكنف هذه الأمور التي يكون ظاهرها نفعا من أضرار يجعل النفع لا جدوى فيه ، بل يكون الضرر في هذه الأحوال نفسها أكثر من النفع .

                                                          هذه الخمر ، أما الميسر ، فهو قمار العرب ، ويطلق على كل قمار اسم الميسر ، فكل ما يتخاطر فيه الناس من معاملة فيها خطر الكسب المطلق أو الخسارة المطلقة يعد ميسرا أو قمارا ، وأصل اشتقاق كلمة ميسر إما من الميسر بمعنى السهولة ; لأن المال يجيء للكاسب عفوا من غير جهد ، وإما من يسر بمعنى وجب ; لأن اللاعب إذا آل إليه الكسب يصير واجبا ، وإما من يسر بمعنى جزأ ، وقد اختار ذلك الأزهري ، فقال : " الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسرا ، لأنه يجزأ ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته ، والياسر الجزار ، لأنه يجزئ لحم الجزور . . وهذا الأصل في الياسر ، ثم قيل للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور ياسرون ; لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك " .

                                                          هذا هو الأصل في استعمال كلمة ميسر ، وقد أطلقت على كل قمار ، وقمار العرب الذي أطلقوا عليه كلمة ميسر هو أنهم كانوا يقسمون البعير المذبوح إلى ثمانية وعشرين قسما ، ويوضع عشرة أقداح ، ثلاثة منها غفل لا علامة عليها تسمى : السفيح ، والمنيح ، والوغد ، ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئا ، وقد تزاد الغفل على هذا العدد ، أما السبعة الأخرى فهي الكاسبة وهي : الفذ وله سهم واحد ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، والمجموع ثمانية وعشرون .

                                                          ولا شك أن هذا من قبيل ما نسميه اليوم ( ورق اليانصيب ) ، وقد كانت عادة العرب أن يفعلوا ذلك عند اشتداد الضائقة ليتبرعوا بنتائج الكسب على الفقراء ، وما أشد الشبه بين هذا وبين عمل الجماعات التي تجمع التبرعات بهذه الطريقة ! .

                                                          [ ص: 708 ] ولقد جاءت النصوص الصريحة بتحريم كل قمار ، وقد ورد أن رجلا قال : إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا ، فارتفعا إلى علي فقال : ذلك قمار ! .

                                                          والميسر مضاره كثيرة ، فهو يؤدي إلى إتلاف المال وإهمال الأعمال ، وهو أكل لمال الناس بالباطل ، ويفسد الأخلاق ، وقد يترتب عليه خراب البيوت ، وهو فوق ذلك يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويورث العداوة والبغضاء ، كما قال تعالى : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون

                                                          ومنافع الميسر ضئيلة أيضا بجوار مضاره ، ومنها إعطاء الفقراء ، كما يرى فيما تصنع جماعات الإحسان ، وأن الحكومات التي تعنى بتربية شعوبها وتهذيب نفوسهم تحارب انتشار القمار ، وتقطع السبل المؤدية إليه ، ولو كانت تبيحه في النوادي الخاصة فبعض الأمم الأوربية يحرم قانونها بيع أوراق اليانصيب ، ولو كانت للبر ; لأنها تربي في الشعب روح المقامرة ، مع أن هذه الأمم تبيح فتح النوادي للقمار ، فهي لا تمنع فتحها للحرية الشخصية في زعمها ، ولكنها تمنع ما يبعث في الشعب روح المقامرة .

                                                          ويلاحظ في الكلمات السامية : قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس أنه أطلق الإثم ولم يضفه فلم يقل إثم على الناس أو للناس ، وقيد المنافع بأنها للناس ، وهذا يدل على أن الإثم في الخمر والميسر ذاتي ، فهما في ذاتهما رجس كبير ، وخطر وبيل ، وأن ما فيهما من منافع فهي ضئيلة وهي بالنسبة لبعض الناس ، فهي منافع إضافية ، لا منافع ذاتية ، فجوهر الخمر والميسر شر لا خير فيه ، وما يكون من نفع فيهما في بعض الملابسات ، كما يلاحظ في بيع الأوراق لتمويل بعض جماعات البر ، فليس ذلك لأن في الميسر خيرا أو نفعا ، بل لأن النفوس فسدت ، وشحت بالخير ، فلا تجود إلا من هذا الطريق الفاسد ، فما فيه من نفع إضافي سببه فساد الناس ، وهو نفع ضئيل للناس ومشتق من أحوالهم .

                                                          وأما السؤال الثاني فقد جاء في قوله تعالى :

                                                          [ ص: 709 ] ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ومناسبته للسؤال الأول أنهم كانوا يتخذون من الخمر والميسر طريقا لتسخية نفوس الأشحة على الخير الذين لا يجودون من تلقاء أنفسهم ، فكان السؤال عن الإنفاق على البر ، عقب السؤال عن الأمر الآثم الذي كانوا يحسبونه برا وهو إثم لا بر فيه . وفي الإجابة عن هذا السؤال بيان طريق العطاء المنظم المعلوم الخالي من الإثم ، بدل العطاء المجهول غير المنتظم للتأشب بالإثم الذي أحاط به . والعفو معناه : السهل ، أو الزائد فإن كلمة عفو لها ثلاثة إطلاقات أولها الترك ، كما قال تعالى : عفا الله عما سلف أي تركه وتجاوز عنه ، وبمعنى السهل ، كما قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وبمعنى الزيادة . والمعنى هنا السهل الزائد عن الحاجة . سألوا عما ينفقون من مال في البر ، فقال لنبيه قل العفو أي السهل الزائد عن حاجتكم الأصلية الذي لا يشق عليكم بذله ، إن استقامت النفوس ، وامتلأت القلوب بالإيمان ، وعمرت بالرحمة وأجابت نداء الرحمن . والعفو يشمل الزكاة المفروضة ; لأنها ليست إلا فضلا قليلا من المال ، كما يشمل صدقة التطوع ، وكما يشمل الصدقات التي يتعين أداؤها إذا كان شخص في مخمصة ولا يدفع غائلة الجوع إلا شخص واحد يعرفه ، ولا يعرفه سواه ، فإنه يتعين عليه الأداء ، وأنه في وقت الحاجات يفيض الغني على الفقير بكل ما يسد حاجته . ولقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له " فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .

                                                          [ ص: 710 ] وإن الآية كما تدل على ذلك توجب على المتصدق أن يبقي لنفسه ولعياله ما يكفيهم ! ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وروي أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة فأعرض عنه حتى كرر عليه مرارا . . . فردها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس ويتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى " .

                                                          وقد ختم الله سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى : كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون أي يبين سبحانه وتعالى في كل الأحوال بيانا كهذا الذي ذكره في الإنفاق وفي الخمر والميسر لكي تتفكروا وتتدبروا في مصالحكم في الدنيا والآخرة ، فتسيروا على الطريق المستقيم في الدنيا ، وتتكون منكم الجماعة الفاضلة المتعاونة المتآزرة ، ويحسن جزاؤكم في الآخرة ، وتحظوا برضوان الله ، وذلك هو الفوز العظيم . و " لعل " للرجاء ، وهو من الله سبحانه وتعالى في معنى التعليل ، لأنه لا رجاء من الله ، إنما الرجاء من العبيد فهذا التمثيل والتصريف في آيات الله البينات ليرجوا التفكر والتدبر ، ويسيروا فيه ليصلوا إلى الغاية الصالحة .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية