الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر الذين أقامهم في مقام الخطر أتبعه تعيين طائفة من القسم الأول المستور الموصوف بالمرود. فألحق بهم الضرر فقال: والذين وهو معطوف في قراءة من أثبت الواو على قوله: وآخرون وخبره على ما يليق بالقصة: منافقون \ ماردون، وأما على قراءة المدنيين وابن عامر بحذفها فيكون على تقدير سؤال سائل، وذلك أنه [لما] قال تعالى: لا تعلمهم نحن نعلمهم تشوفت النفس إلى الإعلام بهم، فلما قال: وآخرون اعترفوا بذنوبهم اشتغل السامع بتفهمه، وربما ظن أنه يأتي في آخر الكلام من تسميتهم ما يغنيه عن السؤال، فلما انتقل بقوله: وآخرون مرجون إلى قسم آخر، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة ليعلم أن الترديد للتقسيم وأنه إن كان شك فهو بالنسبة إلى العباد، وأما الله تعالى فمنزه عنه، فذكر السامع بالصفتين ما كان دار [ ص: 16 ] في خلده ومال إليه قلبه من الإعلام بالماردين على النفاق، فاشتد تشوفه إليه فكان كأنه قال: من من الماردين منهم؟ فقال تعالى [الذين] اتخذوا مسجدا [أي] من الماردين وهم من أعظمهم مهارة في النفاق وإخفاء الكيد والشقاق لأنهم توصلوا إلى ذلك بأن كلفوا أنفسهم الأخذ لأعظم عرى الدين مع المنازعة للفطرة الأولى والحذر من أن يفضحوا، فكان ختام هذه الآية من بديع الختام فإنه احتراس عما يتوهم فيما قلبه ودليل على ما بعده، ولذلك ختم قصتهم أيضا بصفتي العلم والحكمة، ولاح من هذا أن قوله: سنعذبهم مرتين يمكن أن يراد به: مرة برجوعك، ومرة بإخرابك مسجدهم وتفريقك لشملهم بعد هتك سرائرهم بكشف ضمائرهم، وبين سبحانه علة اتخاذهم بقوله: ضرارا أي: لأهل مسجد قباء أو لحزب الله [عامة] وكفرا أي بالله لاتخاذ دينه هزؤا وتفريقا أي [مما] يبيتونه من المكايد باستجلابهم لبعض من يخدعونه من المؤمنين ويطمعون فيه ليأتي مسجدهم ويترك المسجد المؤسس على التقوى بين المؤمنين أي الراسخين في الإيمان بما جاء من عند الله، لأنهم كانوا يجتمعون في مسجد قباء فيغتص بهم وإرصادا أي: إعدادا وانتظارا لمن حارب الله أي الملك الأعظم ورسوله ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي، أدخل الجار فقال: من قبل [ ص: 17 ] أي: قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو أبو عامر الفاسق ليأتي إليهم فيزيدهم قوة على نفاقهم بأن يصير كهفا يأوون إليه ورأسا [لهم] يتجمعون عليه، وذلك أنه كان من بني غنم بن عوف ، وهو والد حنظلة الغسيل الذي كان من خيار الصحابة، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: الحنيفية دين إبراهيم ، قال أبو عامر : أنا عليها، قال صلى الله عليه وسلم: لست عليها، قال: بلى، ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا شريدا وحيدا غريبا! فقال صلى الله عليه وسلم: آمين! وسماه الفاسق، ثم تحيز إلى قريش وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم أحد وقال: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلما قاتل يوم حنين مع هوازن وانهزموا أيس وهرب إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجنود ومخرج محمدا ! وكانوا قد حسدوا إخوانهم بني عمرو بن عوف على مسجد قباء لما بنوه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه ويصلي فيه، فبنوا مسجد الضرار [ ص: 18 ] وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم ليأتيهم فيصلي فيه، وكان يتجهز لتبوك فقال: أنا على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا صلينا فيه إن شاء الله! فلما قدم فكان قريبا من المدينة نزلت الآية، فدعا مالك بن الدخشم وجماعة وقال [لهم]: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يتخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف والقمامة; ومات أبو عامر بالشام [وحيدا غريبا طريدا] وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو لغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر عن سرائرهم أخبر عن نفاقهم في ظواهرهم بقوله: وليحلفن أي: جهد أيمانهم إن أي ما أردنا [أي] باتخاذنا له إلا الحسنى أي: من الخصال; ثم كذبهم بقوله: والله أي الذي له الإحاطة الكاملة يشهد أي يخبر إخبار الشاهد إنهم لكاذبون وقد بان بهذا كله أن سبب فضيحتهم ما تضمنه فعلهم من عظيم الضرر للإسلام وأهله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية