الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم

هذه الآية سيدة آي القرآن، ورد ذلك في الحديث، وورد أنها تعدل ثلث القرآن، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان، وكذلك من قرأها أول [ ص: 23 ] نهاره. وهذه متضمنة التوحيد، والصفات العلى و"الله" مبتدأ، و"لا إله" مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره: "معبود" أو "موجود"، و"إلا هو" بدل من موضع: "لا إله"، و"الحي" صفة من صفات الله تعالى ذاتية، وذكر الطبري عن قوم أنهم قالوا: الله تعالى حي لا بحياة، وهذا قول المعتزلة، وهو قول مرغوب عنه، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له - وحكي عن قوم أنه يقال: حي كما وصف نفسه ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه.

و"القيوم" فيعول - من القيام أصله: قيووم، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، وقيوم بناء مبالغة، أي: هو القائم على كل أمر بما يجب له، وبهذا المعنى فسره مجاهد، والربيع، والضحاك.

وقرأ ابن مسعود، وعلقمة، وإبراهيم النخعي، والأعمش: "الحي القيام" بالألف.

ثم نفي عز وجل أن تأخذه سنة أو نوم، وفي لفظ الأخذ غلبة ما، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي، والسنة: بدء النعاس، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه، وليس يفقد معه كل ذهنه، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن.

والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة، ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال، فجعلت هذه مثالا لذلك، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى: فلا تقل لهما أف ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع: [ ص: 24 ]


وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم



وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي. وقال ابن عباس وغيره: السنة النعاس، وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب. وروى أبو هريرة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال: وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان.

قال: ضرب الله مثلا أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض".


وقوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض أي بالملك، فهو مالك الجميع وربه - وجاءت العبارة بـ "ما" وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود.

ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن يشفع عنده إلا أن يأذن هو فيه جل وعلا.

[ ص: 25 ] وقال الطبري: هذه الآية نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفي، فقال الله: له ما في السماوات وما في الأرض الآية، وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهم الأنبياء والعلماء وغيرهم.

والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: "واشفع تشفع" وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر- والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلين، أو وصل ولكن له أعمال صالحة.

وفي البخاري في باب بقية من باب الرؤية: "إن المؤمنين يقولون: ربنا. إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطيء على باب الجنة". الحديث.

وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم - وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء.

وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له، وهي الخامسة التي في قوله: "وأعطيت الشفاعة" وهي عامة للناس، والقصد منها إراحة المؤمنين، ويتعجل الكفار منها المصير إلى العذاب، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون. والضميران في قوله: "أيديهم وما خلفهم" عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: له ما في السماوات وما في الأرض وقال مجاهد: ما بين أيديهم: الدنيا، وما خلفهم: الآخرة، [ ص: 26 ] وهذا في نفسه صحيح عند الموت ، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية