الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 171 ] 247

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

ذكر مقتل المتوكل

وفي هذه السنة قتل المتوكل ، وكان سبب قتله أنه أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل ، وإقطاعها الفتح بن خاقان ، فكتبت ، وصارت إلى الخاتم ، فبلغ ذلك وصيفا ، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس أول جمعة في رمضان ، وشاع في الناس ، واجتمعوا لذلك ، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب .

فلما كان يوم الجمعة ، وأراد الركوب للصلاة ، قال له عبيد الله بن يحيى ، والفتح بن خاقان : إن الناس قد كثروا من أهل بيتك ومن غيرهم ، فبعض متظلم ، وبعض طالب حاجة ، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ، وعلة به ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة ، ونكون معه ، فليفعل .

فأمر المنتصر بالصلاة ، فلما نهض للركوب قالا له : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن تأمر المعتز بالصلاة ، فقد اجتمع الناس لتشرفه بذلك ، وقد بلغ الله به ، وكان قد ولد للمعتز قبل ذلك ولد ، فأمر المعتز ، فركب فصلى بالناس ، وأقام المنتصر في داره بالجعفرية ، فزاد ذلك في إغرائه .

فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله والفتح بن خاقان ، فقبلا يديه ورجليه ، فلما فرغ من الصلاة انصرف ومعه الناس في موكب الخلافة ، حتى دخل على أبيه ، فأثنوا عليه عنده ، فسره ذلك .

[ ص: 172 ] فلما كان عيد الفطر قال : مروا المنتصر يصلي بالناس ! فقال له عبيد الله : قد كان الناس يتطلعون إلى رؤية أمير المؤمنين ، واحتشدوا لذلك ، فلم يركب ، ولا يأمن إن هو لم يركب اليوم ، أن يرجف الناس بعلته ، فإذا رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ، ويكبت الأعداء بركوبه فليفعل .

فركب وقد صف له الناس نحو أربعة أميال ، وترجلوا بين يديه ، فصلى ، ورجع ، فأخذ حفنة من التراب ، فوضعها على رأسه ، وقال : إني رأيت كثرة هذا الجمع ، ورأيتهم تحت يدي ، فأحببت أن أتواضع لله .

فلما كان اليوم الثالث افتصد ، واشتهى لحم جزور ، فأكله ، وكان قد حضر عنده ابن الحفصي وغيره ، فأكلوا بين يديه . قال : ولم يكن يوم أسر من ذلك اليوم ، ودعا الندماء والمغنين ، فحضروا .

وأهدت له أم المعتز مطرف خز أخضر ، لم ير الناس مثله ، فنظر إليه ، فأطال ، وأكثر تعجبه منه ، وأمر فقطع نصفين ورده عليها ، وقال لرسولها : والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه ، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي; ولهذا أمرت بشقه .

قال : فقلنا : نعيذك بالله أن تقول مثل هذا ، قال : وأخذ في الشراب واللهو ، ولج بأن يقول : أنا والله مفارقكم عن قليل ! ولم يزل في لهوه وسروره إلى الليل .

وكان قد عزم هو والفتح أن يفتكا بكرة غد بالمنتصر ووصيف وبغا وغيرهم من قواد الأتراك ، وقد كان المنتصر واعد الأتراك ووصيفا وغيره على قتل المتوكل .

وكثر عبث المتوكل ، قبل ذلك بيوم ، بابنه المنتصر ، مرة يشتمه ، ومرة يسقيه فوق طاقته ، ومرة يأمر بصفعه ، ومرة يتهدده بالقتل ، ثم قال للفتح : برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إن لم تلطمه ، يعني المنتصر ، فقام إليه فلطمه مرتين ، ثم أمر يده على قفاه ، ثم قال لمن حضره : اشهدوا علي جميعا أني قد خلعت المستعجل ، يعني المنتصر ، ثم التفت إليه ، فقال : سميتك المنتصر ، فسماك الناس ، لحمقك ، المنتظر ، ثم صرت الآن المستعجل .

[ ص: 173 ] فقال المنتصر : لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي ، فقال : اسقوه ، ثم أمر بالعشاء فأحضر ، وذلك في جوف الليل ، فخرج المنتصر من عنده ، وأمر بنانا غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه ، وأخذ بيد زرافة ( الحاجب ) ، وقال له : امض معي ! فقال : إن أمير المؤمنين لم ينم ، فقال : إنه قد أخذ منه النبيذ ، والساعة يخرج بغا والندماء ، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلي ، فإن أوتامش سألني أن أزوج ولده من ابنتك ، وابنك من ابنته ، فقال : نحن عبيدك فمر بأمرك ! فسار معه إلى حجرة هناك ، وأكلا طعاما ، فسمعا الضجة والصراخ ، فقاما ، وإذا بغا قد لقي المنتصر ، فقال المنتصر : ما هذا ؟ فقال : خير يا أمير المؤمنين ، قال : ما تقول ويلك ؟ قال : أعظم الله أجرك ( في سيدنا ) أمير المؤمنين ، كان عبد الله دعاه فأجابه .

فجلس المنتصر ، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل ، فأغلق ، وأغلقت الأبواب كلها ، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل .

وأما كيفية قتل المتوكل ، فإنه لما خرج المنتصر دعا المتوكل بالمائدة ، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائما عند الستر ، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير ، وكان خليفته في الدار ابنه موسى ، وموسى هو ابن خالة المتوكل ، وكان أبوه يومئذ بسميساط ، فدخل بغا الصغير إلى المجلس ، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم ، فقال له الفتح : ليس هذا وقت انصرافهم ، وأمير المؤمنين لم يرتفع ، فقال بغا : إن أمير المؤمنين أمرني أنه إذا جاوز السبعة لا أترك أحدا ، وقد شرب أربعة عشر رطلا ، وحرم أمير المؤمنين خلف الستارة ، وأخرجهم ، فلم يبق إلا الفتح وعثعث ، وأربعة من خدم الخاصة ، وأبو أحمد بن المتوكل ، وهو أخو المؤيد لأمه .

وكان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها ، إلا باب الشط ، ومنه دخل القوم الذين قتلوه ، فبصر بهم أبو أحمد ، فقال : ما هذا يا سفل ! وإذا سيوف مسللة ، فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه ، فرآهم ، فقال : ما هذا يا بغا ؟ فقال : هؤلاء رجال النوبة ، فرجعوا إلى ورائهم عند كلامه ، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم ، فقال لهم بغا : يا سفل ! أنتم مقتولون لا محالة ، فموتوا كراما ! فرجعوا ، فابتدره بغلون ، فضربه على كتفه وأذنه فقده ، فقال : مهلا ! قطع الله يدك ، وأراد الوثوب به ، [ ص: 174 ] واستقبله بيده ، فضربها ، فأبانها ، وشاركه باغر ، فقال الفتح : ويلكم ! أمير المؤمنين . . . ورمى بنفسه على المتوكل ، فبعجوه بسيوفهم ، فصاح : الموت ! وتنحى ، فقتلوه .

وكانوا قالوا لوصيف ليحضر معهم ، وقالوا : إنا نخاف ، فقال : لا بأس عليكم ، فقالوا له : أرسل معنا بعض ولدك ، فأرسل معهم خمسة من ولده : صالحا ، وأحمد ، وعبد الله ، ونصرا ، وعبيد الله .

وقيل : إن القوم لما دخلوا نظر إليهم عثعث ، فقال للمتوكل : قد فرغنا من الأسد ، والحيات ، والعقارب ، وصرنا إلى السيوف ، وذلك أنه ربما أسلى الحية ، والعقرب ، والأسد ، فلما ذكر عثعث السيوف قال : يا ويلك ! أي سيوف ؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه وقتلوه ، وقتلوا الفتح ، وخرجوا إلى المنتصر ، فسلموا عليه بالخلافة ، وقالوا : مات أمير المؤمنين ، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف ، وقالوا : بايع ، فبايع .

وأرسل المنتصر إلى وصيف : إن الفتح قد قتل أبي فقتلته ، فاحضر في وجوه أصحابك ! فحضر هو وأصحابه ، فبايعوا . وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته ينفذ الأمور ولا يعلم ، وبين يديه جعفر بن حامد ، إذ طلع عليه بعض الخدم ، فقال : ما يحبسك والدار سيف واحد ؟ فأمر جعفرا بالنظر ، فخرج ، وعاد وأخبره أن المتوكل والفتح قتلا ، فخرج فيمن عنده من خدمه وخاصته ، فأخبر أن الأبواب مغلقة ، وأخذ نحو الشط ، فإذا أبوابه مغلقة ، فأمر بكسر ثلاثة أبواب ، وخرج إلى الشط ، وركب في زورق ، فأتى منزل المعتز ، فسأل عنه ، فلم يصادفه ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قتل نفسه وقتلني .

واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء ، من الأبناء ، والعجم ، والأمن والزواقيل ، وغيرهم ، فكانوا زهاء عشرة آلاف ، وقيل : كانوا ثلاثة عشر ألفا ، وقيل : ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف ، فقالوا : ما اصطنعتنا إلا لهذا اليوم ، فمرنا بأمرك ، وائذن لنا أن نمل على القوم ، ونقتل المنتصر ومن معه ! فأبى ذلك ، وقال : المعتز في أيديهم .

وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال : كنت أقرأ على المتوكل ، قبل قتله بأيام ، كتابا من كتب الملاحم ، فوقفت على موضع فيه أن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه ، فتوقفت عن قراءته ، فقال : ما لك ؟ فقلت : خيرا ! قال : لا بد من أن تقرأه ، فقرأته ، وحدث عن ذكر الخلفاء ، فقال : ليت شعري من هذا الشقي المقتول ؟ فقال أبو الوارث ، قاضي نصيبين : رأيت في النوم آتيا وهو يقول :

[ ص: 175 ]

يا نائم العين في جثمان يقظان ما بال عينك لا تبكي بتهتان     أما رأيت صروف الدهر ما فعلت
بالهاشمي وبالفتح بن خاقان ؟

فأتى البريد بعد أيام بقتلهما .

وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال ، وقيل : ليلة الخميس .

وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام ، وكان مولده بفم الصلح في شوال سنة ست ومائتين ، وكان عمره نحو أربعين سنة .

وكان أسمر ، حسن العينين ، نحيفا ، خفيف العارضين .

ورثاه الشعراء فأكثروا ، ومما قيل فيه ، قول علي بن الجهم :


عبيد أمير المؤمنين قتلنه     وأعظم آفات الملوك عبيدها
بني هاشم صبرا ، فكل مصيبة     سيبلى على وجه الزمان جديدها



التالي السابق


الخدمات العلمية