الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 1700 ) مسألة : قال : ( فإذا زادت على عشرين ومائة ، ففي كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة ) ظاهر هذا أنها إذا زادت على العشرين والمائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، ومذهب الأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق .

                                                                                                                                            والرواية الثانية ، لا يتعدى الفرض إلى ثلاثين ومائة ، فيكون فيها حقة وبنتا لبون . وهذا مذهب محمد بن إسحاق بن يسار ، وأبي عبيد . ولمالك روايتان ; لأن الفرض لا يتغير بزيادة الواحدة ; بدليل سائر الفروض . ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { فإذا زادت على عشرين ومائة ، ففي كل أربعين بنت لبون } . والواحدة زيادة ، وقد جاء مصرحا به في حديث الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عند ال عمر بن الخطاب . رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : هو حديث حسن . وقال ابن عبد البر : هو أحسن شيء روي في أحاديث الصدقات . وفيه : { فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ، ففيها ثلاث بنات لبون } . وفي لفظ : { إلى عشرين ومائة ، فإذا زادت واحدة ففي كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة } أخرجه الدارقطني .

                                                                                                                                            وأخرج حديث أنس ، من رواية إسحاق بن راهويه ، عن النضر بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، قال : أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدث به عن أنس . وفيه : { فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ، ففي كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة } . ولأن سائر ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم غاية للفرض ، إذا زاد عليه واحدة تغير الفرض ، كذا هذا . وقولهم : إن الفرض لا يتغير بزيادة الواحدة . قلنا : وهذا ما تغير بالواحدة وحدها ، وإنما تغير بها مع ما قبلها ، فأشبهت الواحدة الزائدة عن التسعين والستين وغيرهما .

                                                                                                                                            وقال ابن مسعود ، والنخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة : إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ، استؤنفت الفريضة ، في كل خمس شاة إلى خمس وأربعين ومائة ، فيكون فيها حقتان وبنت مخاض ، إلى خمسين ومائة ، ففيها ثلاث حقاق . وتستأنف الفريضة في كل خمس شاة ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا ، ذكر فيه الصدقات والديات ، وذكر فيه مثل هذا .

                                                                                                                                            [ ص: 235 ] ولنا ، أن في حديثي الصدقات الذي كتبه أبو بكر لأنس ، والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثل مذهبنا ، وهما صحيحان ، وقد رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين } . وأما كتاب عمرو بن حزم ، فقد اختلف في صفته ، فرواه الأثرم في " سننه " مثل مذهبنا .

                                                                                                                                            والأخذ بذلك أولى ، لموافقته الأحاديث الصحاح ، وموافقته القياس ، فإن المال إذا وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه ، كسائر بهيمة الأنعام ، ولأنه مال احتمل المواساة من جنسه ، فلم يجب من غير جنسه ، كالبقر والغنم .

                                                                                                                                            وإنما وجب في الابتداء من غير جنسه ، لأنه ما احتمل المواساة من جنسه ، فلم يجب من غير جنسه ، فعدلنا إلى غير الجنس ضرورة ، وقد زال ذلك بزيادة المال وكثرته ، ولأنه عندهم ينقل من بنت مخاض إلى حقة ، بزيادة خمس من الإبل ، وهي زيادة يسيرة لا تقتضي الانتقال إلى حقة ، فإنا لم ننقل في محل الوفاق من بنت مخاض إلى حقة ، إلا بزيادة إحدى وعشرين ، وإن زادت على مائة وعشرين جزءا من بعير ، لم يتغير الفرض عند أحد من الناس ; لأن في بعض الروايات : " فإذا زادت واحدة " .

                                                                                                                                            وهذا يقيد مطلق الزيادة في الرواية الأخرى ، ولأن سائر الفروض لا تتغير بزيادة جزء . وعلى كلتا الروايتين متى بلغت الإبل مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون ، وفي مائة وأربعين حقتان وبنتا لبون ، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق ، وفي مائة وستين أربع بنات لبون . ثم كلما زادت عشرا أبدلت مكان بنت لبون حقة ، ففي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون ، وفي مائة وثمانين حقتان وابنتا لبون ، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون .

                                                                                                                                            فإذا بلغت مائتين اجتمع الفرضان ; لأن فيهما خمسين أربع مرات ، وأربعين خمس مرات ، فيجب عليه أربع حقاق أو خمس بنات لبون ، أي الفرضين شاء أخرج ، وإن كان الآخر أفضل منه . وقد روي عن أحمد أن عليه أربع حقاق . وهذا محمول على أن عليه أربع حقاق بصيغة التخيير ، اللهم إلا أن يكون المخرج وليا ليتيم أو مجنون ، فليس له أن يخرج من ماله إلا أدنى الفرضين .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : الخيرة إلى الساعي . ومقتضى قوله أن رب المال إذا أخرج لزمه إخراج أعلى الفرضين ، واحتج بقول الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } . ولأنه وجد سبب الفرضين ، فكانت الخيرة إلى مستحقه أو نائبه ، كقتل العمد الموجب للقصاص أو الدية .

                                                                                                                                            ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات ، الذي كتبه ، وكان عند ال عمر بن الخطاب : { فإذا كانت مائتين ، ففيها أربع حقاق ، أو خمس بنات لبون ، أي البنتين وجدت أخذت } . وهذا نص لا يعرج معه على شيء يخالفه ، وقوله عليه السلام { لمعاذ : إياك وكرائم أموالهم } .

                                                                                                                                            ولأنها زكاة ثبت فيها الخيار ، فكان ذلك لرب المال ، كالخيرة في الجبران بين مائتين أو عشرين درهما ، وبين النزول والصعود ، وتعيين المخرج ، ولا تتناول الآية ما نحن فيه ; لأنه إنما يأخذ الفرض بصفة المال ، فيأخذ من الكرام كرائم ، ومن غيرها من وسطها ، فلا يكون خبيثا ، لأن الأدنى ليس بخبيث ، وكذلك لو لم يوجد إلا سبب وجوبه وجب إخراجه ، وقياسهم يبطل بشاة الجبران ، وقياسنا أولى منه ; لأن قياس الزكاة على الزكاة أولى من قياسها على الديات .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فكان أحد الفرضين في ماله دون [ ص: 236 ] الآخر ، فهو مخير بين إخراجه أو شراء الآخر ، ولا يتعين عليه سوى إخراج الموجود ; لأن الزكاة لا تجب في عين المال . وقال القاضي : يتعين عليه إخراج الموجود لأن الزكاة لا تجب في عين المال . ولعله أراد إذا لم يقدر على شراء الآخر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية