الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
786 حديث ثان لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن نافع مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة ، أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حمار وحش ، فاستوى على فرسه ، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه ، فأبوا ، فسألهم رمحه ، فأبوا ، فأخذه ، ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى بعضهم ، فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك ، فقال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله .

التالي السابق


هذا حديث ثابت صحيح ، لا يختلف أهل العلم بالحديث في ثبوته وصحته ، وقد روي عن أبي قتادة من وجوه ، وقد رواه جابر أيضا ، عن أبي قتادة : أخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن حرب ، وحجاج بن منهال ، قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن أبا قتادة أصاب حمار وحش وهو حلال فأكلوا منه .

[ ص: 151 ] قال حماد بن سلمة سمعت محمد بن المنكدر يحدث عن أبي هريرة وجابر بمثل هذا الحديث .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، أنه حدثه أن نافعا الأقرع مولى بني غفار حدثه أن أبا قتادة حدثه أنه اعتمر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث نحوا من حديث مالك .

وروى مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي قتادة في الحمار الوحشي مثل حديث أبي النضر ، إلا أن في حديث زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هل معكم من لحمه شيء ؟

وأخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا صالح بن كيسان ، قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت أبا قتادة يقول : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بالقاحة ، فمنا المحرم وغير المحرم ، إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا ، فنظرت ، فإذا أنا بحمار وحش ، فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، وركبت فرسي ، فسقط سوطي ، فقلت لأصحابي : ناولوني ، وكانوا محرمين ، فقالوا : لا والله ، لا نعينك عليه بشيء ، فتناولت سوطي ، ثم أتيت الحمار من خلفه ، وهو وراء أكمة ، فطعنته برمحي ، فعقرته ، فأتيت به أصحابي ، فقال بعضهم : نأكله ، وقال بعضهم : لا نأكله ، قال : وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامنا ، فحركت فرسي فأدركته فسألته ، فقال : هو حلال فكلوه .

[ ص: 152 ] قال أبو عمر :

يقال : إن أبا قتادة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه على طريق البحر مخافة العدو ، فلذلك لم يكن محرما إذ اجتمع مع أصحابه ; لأن مخرجهم لم يكن واحدا ، وكان ذلك عام الحديبية ، أو بعده بعام عام القضية ، وكان اصطياد أبي قتادة الحمار لنفسه ، لا لأصحابه ، والله أعلم .

وفي حديث أبي قتادة هذا دليل على أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده الحلال ، وفي ذلك أيضا دليل على أن قوله عز وجل ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) معناه : الاصطياد ، وقتل الصيد وأكله لمن صاده ، وأما من لم يصده فليس ممن عني بالآية ، والله أعلم .

وتكون هذه الآية على هذا التأويل مثل قوله عز وجل ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) سواء لأن هذه الآية إنما نهي فيها ، عن قتل الصيد ، واصطياده ، وهذا باب اختلف فيه السلف والخلف ، فكان عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير يرون للمحرم أكل ما صاده الحلال من الصيد مما يحل للحلال أكله ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وأبي هريرة .

وحجة من ذهب هذا المذهب حديث أبي قتادة هذا ، وحديث البهزي ، وسنذكره في باب يحيى بن سعيد من كتابنا هذا - إن شاء الله - وحديث طلحة بن عبيد الله :

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : حدثني محمد بن المنكدر ، عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي ، [ ص: 153 ] عن أبيه ، قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ، ونحن محرمون ، فأهدي لنا طير ، وهو راقد ، فأكل بعضنا ، فاستيقظ طلحة فوفق من أكله ، وقال : أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال آخرون : لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال ، ولا يجوز لمحرم أكل لحم صيد البتة ، على ظاهر عموم قول الله عز وجل ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) . قال ابن عباس : هي مبهمة ، وكذلك كان علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، لا يريان أكل الصيد للمحرم ما دام محرما ، وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد وروي عن الثوري وإسحاق مثل ذلك ، وحجة من ذهب هذا المذهب : حديث ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش أو لحم حمار وحش بالأبواء أو بودان ، فرده عليه ، وقال لم نرده عليك إلا أنا حرم ، وقد ذكرنا هذا الخبر في باب ابن شهاب من هذا الكتاب ، وحجتهم أيضا : حديث زيد بن أرقم وابن عباس :

حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد ، حدثنا عفان ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو سلمة ، قالا جميعا : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال لزيد بن أرقم : يا زيد أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدي له عضد صيد - وقال عفان : عضو صيد - فلم يقبله ، وقال : إنا حرم ، قال : نعم ، وقال عفان : بلى .

وروي ، عن علي بن زيد ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه في حديث فيه طول ، وفيه عن عثمان : إجازة ذلك .

وقال آخرون : ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله ، فلا يجوز له أكله ، وما لم يصد له ولا من أجله ، فلا بأس للمحرم بأكله ، وهو الصحيح عن عثمان [ ص: 154 ] في هذا الباب ، وبه قال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وروي أيضا عن عطاء مثل ذلك .

وحجة من ذهب هذا المذهب : أنه عليه تصح الأحاديث في هذا الباب ، وأنها إذا حملت على ذلك لم تتضاد ، ولا تدافعت ، وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ، ولا يعارض بعضها ببعض ، ما وجد إلى استعمالها سبيل ، هذا وجه النظر في ذلك .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث مثل ذلك :

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا ابن وهب ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو مولى المطلب ، أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لحم صيد البر لكم حلال ، وأنتم حرم ، ما لم تصطادوه ، أو يصطد لكم .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن عمرو ، عن المطلب ، عن جابر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم .

قال حمزة : قال لنا أبو عبد الرحمن : عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث ، وإن كان مالك قد روى عنه .

واختلف عن مالك وطائفة من أهل المدينة فيما صيد لقوم معينين من المحرمين ، هل يجوز أكله لغيرهم من المحرمين ؟ فقال بعضهم : لا يجوز ، وأجازه بعضهم على مذهب عثمان رحمه الله ، وقد أتينا بما للعلماء في هذه المسألة وأخواتها من التنازع والمذاهب في كتاب الاستذكار ، والحمد لله .

[ ص: 155 ] قال أبو عمر وفي حديث أبي قتادة : أنه لما استوى على فرسه سأل أصحابه أن يناولوه سوطه ، أو رمحه ، فأبوا ، وفي هذا دليل على أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر ، فقد فعل ما لا يجوز له ، وهذا إجماع من العلماء .

واختلفوا في المحرم يدل المحرم أو الحلال على الصيد :

فأما إذا دل المحرم الحلال على الصيد ، فقال : مالك والشافعي وأصحابهما : يكره له ذلك ، ولا جزاء عليه ، وهو قول ابن الماجشون ، وأبي ثور ، ولا شيء عليه .

وقال المزني : جائز أن يدل المحرم الحلال على الصيد .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليه الجزاء ، قال أبو حنيفة : ولو دله في الحرم لم يكن عليه جزاء .

وقال زفر : عليه الجزاء في الحل دله عليه أو الحرم ، وبه قال : أحمد وإسحاق ، وهو قول علي ، وابن عباس ، وعطاء .

قال أبو عمر :

القول الأول أقيس وأصح في النظر .

واختلف العلماء أيضا فيما يجب على المحرم يدل المحرم على الصيد فيقتله :

فقال قوم : عليهما كفارة واحدة ، منهم عطاء ، وحماد بن أبي سليمان .

وقال آخرون : على كل واحد منهما كفارة ، روي ذلك عن سعيد بن جبير ، والشعبي ، والحارث العكلي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .

وعن سعيد بن جبير أنه قال : على كل واحد من القاتل والآمر والمشير والدال جزاء .

وقال الشافعي وأبو ثور : لا جزاء ، إلا على القاتل وحده .

واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد :

فقال مالك : إذا قتل جماعة محرمون صيدا ، أو جماعة محلون في الحرم صيدا ، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل ، وبه قال الثوري والحسن بن حي ، وهو قول الحسن البصري ، [ ص: 156 ] والنخعي ، ورواية عن عطاء .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قتل جماعة محرمون صيدا ، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل ، وإن قتل جماعة محلون صيدا في الحرم ، فعلى جماعتهم جزاء واحد .

وقال الشافعي : عليهم كلهم جزاء واحد ، وسواء كانوا محرمين أو محلين في الحرم ، وهو قول عطاء ، والزهري ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .

وروي عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أنهما حكما على رجلين أصابا ظبيا شاة .

قال أبو عمر :

من جعل على كل واحد منهم جزاء ، قاسه على الكفارة في قتل النفس ; لأنهم لا يختلفون في وجوب الكفارة على جميع القتلة خطأ على كل واحد منهم كفارة ، ومن جعل فيه جزاء واحدا قاسه على الدية ، ولا يختلفون أن من قتل نفسا خطأ - وإن كانوا جماعة - إنما عليهم دية واحدة يشتركون فيها ، وقد روي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة هذا ما يدل على أن المشير المحرم لا يجوز له أكل ما أشار بقتله على الحلال :

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمود بن غيلان ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : أخبرنا شعبة ، قال : أخبرني عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه ، أنهم كانوا في مسير لهم بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم ، قال : فرأيت حمار وحش ، فركبت فرسي ، وأخذت الرمح فاستعنتهم ، فأبوا أن يعينوني ، فاختلست سوطا من بعضهم ، وشددت على الحمار ، فأصبته ، فأكلوا منه ، فأشفقوا ، قال : فسئل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هل أشرتم أو أعنتم ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوه .




الخدمات العلمية