الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
841 [ ص: 157 ] حديث ثالث لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن أم الفضل بنت الحارث ، أن أناسا اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : هو صائم ، وقال بعضهم : ليس بصائم ، فأرسلت إليه بقدح لبن ، وهو واقف على بعيره ، فشربه .

التالي السابق


قال أبو عمر :

محمل هذا الحديث عندنا أنه كان بعرفة ، وقد روي ذلك منصوصا ، وإذا كان بعرفة ، فالفطر أفضل تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوة على الدعاء ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ، ونهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .

وتخصيصه بعرفة دليل على أن غير عرفة ليست كذلك ، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - فضل صوم عرفة ، وأنه يكفر سنتين ، والله أعلم .

وقد روي ، عن ميمونة في هذا الباب مثل حديث أم الفضل سواء ، حدثناه أحمد بن سعيد ، حدثنا ابن أبي دليم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا يعقوب بن حميد ، حدثنا الدراوردي ، عن إبراهيم بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن ميمونة أنهم تماروا في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فقالت ميمونة سأبعث إليه بشراب ، فإن كان مفطرا لم يرده ، فبعثت إليه بقدح لبن فشرب ، والناس ينظرون ، يعني يوم عرفة .

[ ص: 158 ] وكان مالك والثوري والشافعي يختارون الفطر يوم عرفة بعرفة ، قال إسماعيل ، عن ابن أبي أويس ، عن مالك ، أنه كان يأمر بالفطر يوم عرفة في الحج ، ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك اليوم مفطرا .

وقال الشافعي : أحب صوم يوم عرفة لغير الحاج ، فأما من حج فأحب إلي أن يفطر ليقويه الفطر على الدعاء .

قال أبو عمر :

قول الشافعي أحسن شيء في هذا الباب ، وكان ابن الزبير ، وعائشة يصومان يوم عرفة ، وعن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن أبي العاصي مثل ذلك ، إلا أنه قد جاء عن عمر أنه لم يصم يوم عرفة ، وهذا عندي على أنه بعرفة ، لئلا تتضاد عنه الرواية في ذلك ، روى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، أن عمر بن الخطاب لم يصم يوم عرفة ، وأما عثمان بن أبي العاصي فكان يصومه .

ذكر الفاكهي ، قال : حدثنا حسين بن حسن ، ويعقوب بن حميد ، قالا : حدثنا المعمر بن سليمان ، قال سمعت حميدا يحدث عن الحسن ، قال : لقد رأيت عثمان بن أبي العاصي يرش عليه ماء في يوم عرفة ، وهو صائم ، وهذا يحتمل أن يكون بغير عرفة أيضا .

قال : وحدثنا يعقوب بن حميد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن جابر ، عن أبيه ، عن عطاء ، قال : صيام يوم عرفة ، كصيام ألف يوم ، وهذا أيضا بغير عرفة ، والله أعلم .

وكان إسحاق بن راهويه يميل إلى صومه بعرفة وغير عرفة ، وقال قتادة : لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء ، وكان عطاء يقول : أصومه في الشتاء ، ولا أصومه في الصيف ، وهذا لئلا يضعفه صومه مع الحر عن الدعاء ، والله أعلم .

[ ص: 159 ] وكان ابن عمر يقول : لم يصمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ، فأنا لا أصومه .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن عمر ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال حججت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصمه ، ، ومع أبي بكر فلم يصمه ، ومع عمر فلم يصمه ، ومع عثمان فلم يصمه ، ولا أصومه ، ولا آمر بصيامه ، ولا أنهى عنه ، وهذا يوضح لك أن ذلك كان في الحج بعرفة لما ذكرنا ، والله أعلم .

أخبرنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا مسدد قالا جميعا : حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي ، قال : حدثنا هوذة أبو الأشهب ( بن خليفة بن عبد الله ) البصري ، عن أبيه ، عن جده ، قال : مر عمر بن الخطاب بأبيات بعرفات ، فقال : ما هذه الأبيات ؟ قلنا : لعبد القيس ، فقال لهم خيرا ، ودعا لهم ونهاهم عن صوم يوم عرفة .

قال : وحج أبي وطليق بن محمد الخزاعي ، فاختلفا في صوم يوم عرفة ، فقال أبي : بيني وبينك سعيد بن المسيب ، فأتيناه ، فقلت له : يا أبا محمد ، إنا اختلفنا في صوم يوم عرفة ، فجعلناك بيننا ، فقال : أنا أخبركم ، عثمان هو خير مني ، عبد الله بن عمر كان لا يصومه ، وقال : حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان ، فكلهم كان لا يصومه ، وأنا لا أصومه [ ص: 160 ] قال أبو عمر :

محمل هذا عندي بعرفة خاصة ، والله أعلم ، والآثار تدل على ذلك ، ألا ترى أن في هذا الحديث ، عن عمر أنه مر بأبيات بعرفات لعبد القيس ، ومعلوم أن عمر ، إنما كان يأتي في خلافته عرفة في أيام الحج خاصة ، ومثل هذا حديث ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن ابن عمر أنه سئل ، عن صيام يوم عرفة ، فقال : حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصمه وحججت مع عمر فلم يصمه ، وحججت مع عثمان فلم يصمه ، وأنا لا أصومه ، ولا آمر به ، ولا أنهى عنه . وهذا يبين أن ذلك في أيام الحج ، وأنه لا يصح النهي عن صوم يوم عرفة إلا بعرفة في أيام الحج .

ومثل هذا أيضا حديث يحيى بن أبي إسحاق ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر في ذلك :

حدثنا سعيد بن نصر - قراءة مني عليه - أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال حدثني يحيى بن أبي إسحاق ، قال : سألت سعيد بن المسيب ، عن صوم يوم عرفة ، فقال : كان ابن عمر لا يصومه ، فقلت : غيره ؟ فقال : حسبك به شيخا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حوشب بن عقيل ، عن مهدي الهجري ، قال : حدثنا عكرمة قال : كنا عند أبى هريرة في بيته ، فحدثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .

[ ص: 161 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حوشب بن عقيل ، عن مهدي الهجري ، قال : حدثنا عكرمة ، قال كنا عند أبي هريرة في منزله فحدثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .

وروى حماد بن زيد ، وإسماعيل بن علية ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ، وبعثت إليه أم الفضل بلبن فشربه ، وفي حديث حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : حدثتني أم الفضل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفطر بعرفة ، أتته بلبن فشربه .

حدثنا أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا داود بن نوح ، حدثنا حماد ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه أفطر بعرفة ، وأتي برمان فأكله ، وقال : حدثتني أم الفضل ، فذكره .

وحديث ابن علية ذكره ابن أبي شيبة عنه ، وهذا كله يدل على أن فطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، في حديث أم الفضل كان بعرفة .

وقد ذهبت طائفة إلى ترك صومه بعرفة وغير عرفة للدعاء ، وقالوا : دعاء يوم عرفة بعرفة وغيرها دعاء مرجو إجابته ، وممن ذهب إلى هذا : عبيد بن عمير ، ومحمد بن المنكدر ، وكان ابن عباس يقول لأصحابه : من صحبني من ذكر أو أنثى ، فلا يصم يوم عرفة .

وروى سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير أنه قال : أفطر يوم عرفة ; لأتقوى على الدعاء ، وهذا ممكن أن يكون بعرفة ; لأنه موضع الاجتهاد في الدعاء ، مع ما فيه القوم من النصب والتعب بالسفر ، وأما ما روي في فضل صومه ، وذلك يدل على أنه بغيره ، والله أعلم :

فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا داود بن [ ص: 162 ] شابور ، عن أبي قزعة ، عن أبي الخليل ، عن أبي حرملة ، عن أبي قتادة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال صيام يوم عرفة يكفر هذه السنة والتي تليها . وهذا الحديث اختلف في إسناده اختلافا يطول ذكره ، وأبو الخليل ، وأبو حرملة لا يحتج بهما ، وطائفة تقول : أبو حرملة ، وطائفة تقول : حرملة بن إياس الشيباني ، ولكنه صحيح عن أبي قتادة من وجوه ، روى شعبة ، عن غيلان بن جرير المعولي ، عن عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة ، فقال : يكفر السنة الماضية والباقية ، ذكره أبو بكر بن أبي شيبة ، عن شبابة ، عن شعبة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عرفة ، فقال : يكفر السنة الماضية والباقية ، وسئل عن صوم يوم عاشوراء ، فقال : يكفر السنة الماضية . وهذا إسناد حسن صحيح ، وهو يعضد ما تقدم .

حدثنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا سليمان بن أحمد الواسطي ، حدثنا عمر بن عبد الواحد ، حدثنا إسحاق بن عبد الله ، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن قتادة بن النعمان ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة أمامه وسنة خلفه .

[ ص: 163 ] قال أبو عمر إسحاق هذا هو إسحاق بن أبي فروة ، وهو ضعيف ، والفضائل يتسامح في أسانيدها .

وذكر الفاكهي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : قرأت على فضيل ، عن أبي حريز ، أنه سمع سعيد بن جبير يحدث أن رجلا سأل ابن عمر عن صوم يوم عرفة ، فقال : كنا ، ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعدله بصوم سنة ، وهذا يوضح لك ما ذكرناه ، وبذلك يصح استعمال الروايات كلها ، عن ابن عمر ، وغيره في هذا الباب .

وأما حديث عقبة بن عامر في هذا الباب ، فحدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ، قال : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا موسى بن معاوية ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، قالا : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق عندنا - أهل الإسلام - وهي أيام أكل وشرب .

وحدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن حيون ، قال : حدثنا بشر بن موسى ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

قال أبو عمر :

هذا حديث انفرد به موسى بن علي ، عن أبيه ، وما انفرد به ، فليس بالقوي ، وذكر يوم عرفة في هذا الحديث غير محفوظ ، وإنما المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه : يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق أيام أكل وشرب .

[ ص: 164 ] وقد أجمع العلماء على أن يوم عرفة جائز صيامه للمتمتع إذا لم يجد هديا ، وأنه جائز صيامه بغير مكة ، ومن كره صومه بعرفة ، فإنما كرهه من أجل الضعف عن الدعاء ، والعمل في ذلك الموقف ، والنصب لله فيه ، فإن صيامه قادرا على الإتيان بما كلف من العمل بعرفة ، بغير حرج ، ولا إثم .

وفي حديث موسى بن علي هذا ذكر عرفة ، مع بيان حكمه ، وذكر يوم النحر ، وقد أجمعوا على أنه لا يحل لأحد صومه ، وذكر أيام التشريق ، وقد اختلف العلماء في صيامها للمتمتع وغيره ، على ما يأتي ذكره في موضعه في هذا الكتاب ، إن شاء الله .




الخدمات العلمية