الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 387 ] قوله عز وجل:

أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد

روي أن هذه الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام الآية، نزلت في علي وحمزة رضي الله عنهما وأبي لهب وابنه، هما اللذان كانا من القاسية قلوبهم. وفي الكلام محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره: كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله، و"شرح الله صدره" استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله، و"النور" هداية الله، وهي أشبه شيء بالضوء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: قلنا: يا رسول الله، كيف انشراح الصدر؟ قال: "إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح"، قلنا: وما علامة ذلك؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت"، و"القسوة": شدة القلب، وهي مأخوذة من قسوة الحجر، شبه قلب الكافر به في صلابته، وقلة انفعاله للوعظ. وقال مالك بن دينار : "ما ضرب العبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب"، ويدل قوله: فويل للقاسية قلوبهم على المحذوف المقدر.

وقوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها يريد به القرآن، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سبب هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، [ ص: 388 ] حدثنا بأحاديث حسان ، وأخبرنا بأخبار الدهر، فنزلت الآية في ذلك، وقوله: "متشابها" معناه: مستويا لا تناقض فيه ولا تدافع، بل يشبه بعضه بعضا في رصانة اللفظ، ووثاقة البراهين، وشرف المعاني; إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه. وقوله: "مثاني" معناه: موضع تثنية للقصص والأقضية والمواعظ، تثنى فيه ولا يمل مع ذلك، ولا يعرضها ما يعرض للحديث المعاد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يثنى فيه الأمر مرارا. ولا ينصرف "مثاني" لأنه جمع لا نظير له في الواحد.

وقوله تعالى: تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم عبارة عن وقف شعر الإنسان عند ما يداخله خوف، ولين قلب عند سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه، وهذه علامة وقوع المعنى المخشع في قلب السامع، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة"، وقال العباس : قال عليه الصلاة والسلام: "من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها"، وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كان الصحابة تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقواما اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: وقد رأى ساقطا عند سماع القرآن: إنا لنخشى الله وما نسقط، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم، وقال ابن سيرين بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق.

[ ص: 389 ] وقوله: ذلك هدى الله يحتمل أن يشير إلى القرآن، أي: ذلك الذي هذه صفته هدى الله، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلد، أي: ذلك أمارة هدى الله، ومن جعل [تقشعر] في موضع الصفة لم يقف على "مثاني"، ومن جعله مستأنفا وإخبارا منقطعا وقف على "مثاني". وباقي الآية بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية