الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين

لما ذكر الله تعالى أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملا، جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطرا وهو التوحيد، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين بعبد لرجال عدة، في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم، ويضايقون العبد في كثرة العمل، فهو أبدا ناصب، فكذلك عابد الأوثان، الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها، وبحراسة حاله منها، ومتى أرضى صنما منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبدا في نصب و ضلال، وكذلك هو المصانع للناس، الممتحن بخدمة الملوك.

[ ص: 391 ] ومثل تعالى المؤمن بالله تبارك وتعالى وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله، فهو يعمله على تؤدة، وقد ساس مولاه، فالمولى يغفر زلته، ويشكره على إجادة عمله.

وقوله تعالى: "ضرب" مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه، ومنه قولهم: "هذا ضرب هذا"، أي: شبهه، و"مثلا" مفعول بـ"ضرب"، و"رجلا" بدل، قال الكسائي : وإن شئت على إسقاط الخافض، أي: "مثلا لرجل"، أو"في رجل"، وفي هذا نظر.

و"متشاكسون" معناه: لا سمح في أخلاقهم، بل فيها لجاج ومتابعة ومحاذقة، ومنه قول الشاعر:


خلقت شكسا للأعادي مشكسا



وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : [ سالما ] على اسم الفاعل، بمعنى: سلم من الشركة فيه، قال أبو عمرو : معناه: خالصا، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والجحدري، والزهري ، والحسن - بخلاف عنه - وقرأ الباقون: "سلما" بفتح السين واللام، وهي قراءة الأعرج ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وأبي رجاء ، وطلحة ، والحسن بخلاف -. وقرأ سعيد بن جبير : [سلما] بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدران وصف بهما الرجل، بمعنى: خالصا وأمرا قد سلم له.

[ ص: 392 ] ثم وقف الكفار بقوله: هل يستويان مثلا ، ونصب "مثلا" على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا، فقال: الحمد لله على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم، ثم قال: بل أكثرهم لا يعلمون فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره: الحمد لله على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون، بل أكثرهم لا يعلمون. و"أكثر" في هذه الآية على بابها، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به، ورفض أمر الأصنام، كورقة وزيد، وقس.

ثم ابتدأ القول معهم في غرض آخر من الوعيد يوم القيامة والخصومة فيه، ومن التحذير من حال الكذبة على الله، المكذبين بالصدق، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف التوعد، وهذا كما تريد أن تنهى إنسانا عن معاصيه، أو تأمره بخير، فتفتتح كلامك بأن تقول: كلنا يفنى، أو: لابد للجميع من الموت، أو: كل من عليها فان، ونحو هذا مما ترقق به نفس الذي تحادثه، ثم بعد هذا تورد قولك. فأخبر تعالى أن الجميع ميت، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها [مائت] و[مائتون] بألف ابن الزبير ، وابن محيصن، وابن أبي إسحاق ، واليماني، وعيسى بن عمر ، وابن أبي عقرب، والضمير في "إنهم" لجميع العالم. دخل رجل على صلة بن أشيم فنعى إليه أخاه، وبين يدي صلة طعام، فقال صلة للرجل: ادن فكل، فإن أخي قد نعي إلي منذ زمان، قال الله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون .

والضمير في ثم إنكم قيل: هو عام أيضا، فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه، ومن هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن عز وجل، فيختصم علي، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم مع عتبة ، وشيبة ، [ ص: 393 ] والوليد، ويختصم أيضا المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم، قاله أبو العالية وغيره، وقال الزبير بن العوام للنبي صلى الله عليه وسلم: أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: "نعم، حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه"، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية قلنا: كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف قلنا: هذا الخصام الذي وعدنا ربنا تعالى، ويختصم أيضا - على ما روي - الروح مع الجسد في أن يذنب كل واحد منهما صاحبه، ويجعل المعصية في حيزه، فيحكم الله تعالى بشركتهما في ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في وجه الشريعة، وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 394 ] ثم وقفهم الله تعالى توقيفا معناه نفي الموقف عليه بقوله تعالى: فمن أظلم ، أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، والإشارة بهذا الكذب بقولهم: إن لله صاحبة وولدا، وقولهم: هذا حلال وهذا حرام افتراء على الله تعالى، وكذبوا أيضا بالصدق، وذلك تكذيبهم أقوال محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، ما كان من ذلك معجزا أو غير معجز، ثم توعدهم تبارك وتعالى توعدا فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف: أليس في جهنم مثوى للكافرين ، والمثوى: موضع الإقامة.

التالي السابق


الخدمات العلمية