الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم

                                                                                                                                                                                                                                        وكذلك إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل. جعلناكم أمة وسطا أي خيارا، أو عدولا مزكين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن، ثم أطلق على المتصف بها مستويا فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا علة للجعل، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على [ ص: 111 ] أحد وما ظلم، بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا. ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات، والإعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم أو بعدكم.

                                                                                                                                                                                                                                        روي « أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالبهم الله ببينة التبليغ - وهو أعلم بهم - إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم »

                                                                                                                                                                                                                                        وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدي بعلى، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم. وما جعلنا القبلة التي كنت عليها أي الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود. أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما (كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه) فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ. والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس.

                                                                                                                                                                                                                                        إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وما كان لعارض يزول بزواله. وعلى الأول معناه: ما رددناك إلى التي كنت عليها إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه. فإن قيل: كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالما. قلت: هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء، والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا. وقيل: ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى: ليميز الله الخبيث من الطيب فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه، ويشهد له قراءة « ليعلم » على البناء للمفعول، والعلم إما بمعنى المعرفة، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب. وإن كانت لكبيرة إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفاصلة.

                                                                                                                                                                                                                                        وقال الكوفيون: هي النافية واللام بمعنى إلا. والضمير لما دل عليه قوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها من الجعلة، أو الردة، أو التولية، أو التحويلة، أو القبلة. وقرئ « لكبيرة » بالرفع فتكون كان زائدة إلا على الذين هدى الله إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع وما كان الله ليضيع إيمانكم أي ثباتكم على الإيمان. وقيل: إيمانكم بالقبلة المنسوخة، أو صلاتكم إليها لما روي: أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت: إن الله بالناس لرءوف رحيم فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم، ولعله قدم الرءوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص لرءوف بالمد، والباقون بالقصر.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية