الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الاعتكاف قال الله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ومعنى الاعتكاف في أصل اللغة هو اللبث ، قال الله : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وقال تعالى : فنظل لها عاكفين وقال الطرماح :

فباتت بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع

ثم نقل في الشرع إلى معان أخر مع اللبث لم يكن الاسم يتناولها في اللغة ؛ منها الكون في المسجد ، ومنها الصوم ، ومنها ترك الجماع رأسا ونية التقرب إلى الله عزة وجل ، ولا يكون معتكفا إلا بوجود هذه المعاني ، وهو نظير ما قلنا في الصوم إنه اسم للإمساك في اللغة ثم زيد فيه معان أخر لا يكون الإمساك صوما شرعيا إلا بوجودها .

وأما شرط اللبث في المسجد فإنه للرجال خاصة دون النساء ، وأما شرط كونه في المسجد في الاعتكاف فالأصل فيه قوله عز وجل : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد فجعل من شرط الاعتكاف الكون في المسجد ، وقد اختلف السلف في المسجد الذي يجوز الاعتكاف فيه [ ص: 302 ] على أنحاء .

وروي عن أبي وائل عن حذيفة أنه قال لعبد الله : رأيت ناسا عكوفا بين دارك ودار الأشعري لا تعير . وقد علمت أن لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو في المسجد الحرام فقال عبد الله : لعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت ،

وروى إبراهيم النخعي أن حذيفة قال : " لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم " ، وروي عن قتادة عن سعيد بن المسيب : " لا اعتكاف إلا في مسجد نبي " ، وهذا موافق لمذهب حذيفة ؛ لأن المساجد الثلاثة هي مساجد الأنبياء عليهم السلام .

وقول آخر ؛ وهو ما روى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : " لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم " .

وروي عن عبد الله بن مسعود وعائشة وإبراهيم وسعيد بن جبير وأبي جعفر وعروة بن الزبير : " لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة " فحصل من اتفاق جميع السلف أن من شرط الاعتكاف الكون في المسجد على اختلاف منهم في عموم المساجد وخصوصها على الوجه الذي بينا ؛ ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في سائر المساجد التي تقام فيها الجماعات إلا شيء يحكى عن مالك ذكره عنه ابن عبد الحكم قال : " لا يعتكف أحد إلا في المسجد الجامع أو في رحاب المساجد التي تجوز فيها الصلاة " .

وظاهر قوله : وأنتم عاكفون في المساجد يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ ، ومن اقتصر به على بعضها فعليه بإقامة الدلالة ، وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه ، كما أن تخصيص من خصه بمساجد الأنبياء لما لم يكن عليه دليل سقط اعتباره .

فإن قيل : قوله صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ومسجد بيت المقدس ومسجدي هذا يدل على اعتبار تخصيص هذه المساجد ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام يدل على اختصاص هذين المسجدين بالفضيلة دون غيرهما ، قيل له : لعمري إن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم في تخصيصه المساجد الثلاثة في حال والمسجدين في حال دليل على تفضيلهما على سائر المساجد .

وكذلك نقول كما قال صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا دلالة فيه على نفي جواز الاعتكاف في غيرهما كما لا دلالة على نفي جواز الجمعات والجماعات في غيرهما ، فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على تخصيصهما ؛ وقول مالك في الرواية التي رويت عنه في تخصيص مساجد الجمعات دون مساجد الجماعات لا معنى له ، وكما لا تمتنع صلاة الجمعة في سائر المساجد كذلك [ ص: 303 ] لا يمتنع الاعتكاف فيها ، فكيف صار الاعتكاف مخصوصا بمساجد الجمعات دون مساجد الجماعات ؟

وقد اختلف الفقهاء في موضع اعتكاف النساء ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ، ولا تعتكف في مسجد جماعة " وقال مالك : " تعتكف المرأة في مسجد الجماعة " ولا يعجبه أن تعتكف في مسجد بيتها ، وقال الشافعي : " العبد والمرأة والمسافر يعتكفون حيث شاءوا ؛ لأنه لا جمعة عليهم " .

قال أبو بكر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، وبيوتهن خير لهن فأخبر أن بيتها خير لها ، ولم يفرق بين حالها في الاعتكاف وفي الصلاة ، ولما جاز للمرأة الاعتكاف باتفاق الفقهاء وجب أن يكون ذلك في بيتها لقوله صلى الله عليه وسلم : وبيوتهن خير لهن فلو كانت ممن يباح لها الاعتكاف في المسجد لكان اعتكافها في المسجد أفضل ولم يكن بيوتهن خيرا لهن لأن الاعتكاف شرطه الكون في المساجد لمن يباح له الاعتكاف فيه .

ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ، فلما كانت صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد كان اعتكافها كذلك .

ويدل على كراهة الاعتكاف في المساجد للنساء ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه ، قالت : وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، قالت : فأمر ببنائه فضرب ، فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب ، قالت : وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب ، فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال : ما هذه آلبر تردن ؟ قالت : ثم أمر ببنائه فقوض وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت ، ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول ؛ يعني من شوال .

وهذا الخبر يدل على كراهية الاعتكاف للنساء في المسجد بقوله : آلبر تردن ؟ يعني أن هذا ليس من البر ، ويدل على كراهية ذلك منهن أنه لم يعتكف في ذلك الشهر ونقض بناءه حتى نقضن أبنيتهن .

ولو ساغ لهن الاعتكاف عنده لما ترك الاعتكاف بعد العزيمة ولما جوز لهن تركه وهو قربة إلى الله تعالى ، وفي هذا دلالة على أنه قد كره اعتكاف النساء في المساجد .

فإن قيل : قد روى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة وقالت فيه : فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف فأذن لي ، [ ص: 304 ] ثم استأذنته زينب فأذن لها ، فلما صلى الفجر رأى في المسجد أربعة أبنية فقال : ما هذا ؟ فقالوا : لزينب وحفصة وعائشة فقال : آلبر تردن ؟ فلم يعتكف ، فأخبرت في هذا الحديث بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : ليس فيه أنه أذن لهن في الاعتكاف في المسجد ، ويحتمل أن يكون الإذن انصرف إلى اعتكافهن في بيوتهن ، ويدل عليه أنه لما رأى أبنيتهن في المسجد ترك الاعتكاف حتى تركن أيضا ، وهذا يدل على أن الإذن بديا لم يكن إذنا لهن في الاعتكاف في المسجد ، وأيضا فلو صح أن الإذن بديا انصرف إلى فعله في المسجد لكانت الكراهة دالة على نسخه وكان الآخر من أمره أولى مما تقدم ، فإن قيل : لا يجوز أن يكون ذلك نسخا للإذن لأن النسخ عندكم لا يجوز قبل التمكن من الفعل ، قيل له : قد كن مكن من الفعل لأدنى الاعتكاف ؛ لأنه من حين طلوع الفجر من ذلك اليوم إلى أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر فعلهن ذلك فقد حصل التمكين من الاعتكاف ، فلذلك جاز ورود النسخ بعده .

وأما قول الشافعي فيمن لا جمعة عليه : " إن له أن يعتكف حيث شاء " فلا معنى له ؛ لأنه ليس للاعتكاف تعلق بالجمعة ، وقد وافقنا الشافعي على جواز الاعتكاف في سائر المساجد فيمن عليه جمعة ومن ليست عليه لا يختلفان في موضع الاعتكاف ، وإنما كره ذلك للمرأة في المسجد لأنها تصير لابثة مع الرجال في المسجد وذلك مكروه لها سواء كانت معتكفة أو غير معتكفة ، فأما من سواها فلا يختلف الحكم فيه لقوله تعالى : وأنتم عاكفون في المساجد فلم يخصص من عليه جمعة من غيرهم ، فلا يختلف في الاعتكاف من عليه جمعة ومن ليست عليه ؛ لأنه نافلة ليس بفرض على أحد .

وقد اختلف الفقهاء في مدة الاعتكاف ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي : " له أن يعتكف يوما وما شاء " وقد اختلفت الرواية عن أصحابنا في من دخل في الاعتكاف من غير إيجاب ، بالقول في إحدى الروايتين : " هو معتكف ما دام في المسجد وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه فيه " والرواية الأخرى ، وهي في غير الأصول " أن عليه أن يتمه يوما " .

وروى ابن وهب عن مالك قال : " ما سمعت أن أحدا اعتكف دون عشر ، ومن صنع ذلك لم أر عليه شيئا " وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يقول : " الاعتكاف يوم وليلة " ثم رجع وقال : " لا اعتكاف أقل من عشرة أيام " وقال عبيد الله بن الحسن : " لا أستحب أن يعتكف أقل من عشرة أيام " قال أبو بكر : تحديد مدة الاعتكاف لا يصح إلا بتوقيف أو اتفاق وهما معدومان ، فالموجب لتحديده متحكم قائل بغير دلالة .

[ ص: 305 ] فإن قيل : تحديد العشرة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، وروي أنه اعتكف العشر الأواخر من شوال في بعض السنين ، ولم يرو أنه اعتكف أقل من ذلك ، قيل له : لم يختلف الفقهاء أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للاعتكاف ليس على الوجوب وأنه غير موجب على أحد اعتكافا ، فإذا لم يكن فعله للاعتكاف على الوجوب فتحديد العشرة أولى أن لا يثبت بفعله ، ومع ذلك فإنه لم ينف عن غيره ، فنحن نقول : إن اعتكاف العشرة جائز ونفي ما دونها يحتاج إلى دليل ، وقد أطلق الله تعالى ذكر الاعتكاف فقال : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ولم يحده بوقت ولم يقدره بمدة ، فهو على إطلاقه وغير جائز تخصيصه بغير دلالة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية