الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا

                                                                                                                                                                                                الصديق : من أبنية المبالغة ، ونظيره : الضحيك والنطيق ، والمراد : فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله ، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل ، أي : كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم ، وكان نبيا في نفسه ؛ كقوله تعالى : بل جاء بالحق وصدق المرسلين [الصافات : 37 ] أو : كان بليغا في الصدق ؛ لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، ومصدق الله بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك ، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله ، أعني : إبراهيم ، و "إذ قال" : نحو قولك : رأيت زيدا ، ونعم الرجل أخوك ، ويجوز أن يتعلق إذ بـ "كأن" أو بـ "صديقا نبيا" ، أي : كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء ، حين خاطب أباه تلك المخاطبات والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم ، كقوله : واتل عليهم نبأ إبراهيم [الشعراء : 69 ] ، وإلا فالله -عز وجل- هو ذاكره ومورده في تنزيله ، التاء في " يا أبت " : عوض من ياء الإضافة ، [ ص: 23 ] ولا يقال : يا أبتي ؛ لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه ، وقيل : يا أبتا ؛ لكون الألف بدلا من الياء ، وشبه ذلك سيبويه بأينق ، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة ، انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز ، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة : كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق ، مع استعمال المجاملة ، واللطف ، والرفق ، واللين ، والأدب الجميل ، والخلق الحسن ؛ منتصحا في ذلك بنصيحة ربه -عز وعلا- . حدث أبو هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "أوحى الله إلى إبراهيم -عليه السلام - : إنك خليلي ، حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار -فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه : أظله تحت عرشي ، وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري" 923 ح ، وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئة طلب منبه على تماديه ، موقظ لإفراطه وتناهيه ؛ لأن المعبود لو كان حيا مميزا ، سميعا بصيرا ، مقتدرا على الثواب والعقاب ، نافعا ضارا ، إلا أنه بعض الخلق : لاستخف عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية ، ولسجل عليه بالغي المبين والظلم العظيم ، وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين ؛ قال الله تعالى : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [آل عمران : 80 ] وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم ، فلا تحق إلا لمن [ ص: 24 ] له غاية الإنعام : وهو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، الذي منه أصول النعم وفروعها ، فإذا وجهت إلى غيره -وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره- لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا ، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم ، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع -يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه ، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له ، فضلا أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه ، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها ، ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا ، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك ؛ وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف ، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك ، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه ، ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه : بأن الشيطان -الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده ، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم- هو الذي ورطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك ، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان ، إلا أن إبراهيم -عليه السلام- لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذريته ، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه ، ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال ، ولم يخل ذلك من حسن الأدب ؛ حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق له وأن العذاب لاصق به ، ولكنه قال : "أخاف أن يمسك عذاب " ، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب ، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب ؛ وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه ، وسماه الله تعالى : المشهود له بالفوز العظيم ؛ حيث قال : ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم [التوبة : 72 ] ؛ فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله ، أكبر من العذاب نفسه وأعظم ، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله : "يا أبت " ؛ توسلا إليه واستعطافا ، فـ " ما " في : ما لا يسمع ، و ما لم يأتك : يجوز أن تكون موصولة وموصوفة ، والمفعول في : لا يسمع ولا يبصر : منسي غير منوي ؛ كقولك : ليس به استماع ولا إبصار ، "شيئا " : يحتمل وجهين :



                                                                                                                                                                                                أحدهما : أن يكون في موضع المصدر ، أي : شيئا من الغناء ، ويجوز أن يقدر نحوه [ ص: 25 ] مع الفعلين السابقين .

                                                                                                                                                                                                والثاني : أن يكون مفعولا به من قولهم : أغن عني وجهك ، إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك : فيه تجدد العلم عنده .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية