الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإذا فرغتم ، أيها المؤمنون ، من صلاتكم وأنتم مواقفو عدوكم التي بيناها لكم ، فاذكروا الله على كل أحوالكم قياما وقعودا ومضطجعين على جنوبكم ، بالتعظيم له ، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم ، لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم . وذلك نظير قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [ سورة الأنفال : 45 ] ، وكما : -

10380 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " واذكروا الله كثيرا " ، يقول : لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال عذر ، غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، فقال : " فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " ، بالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال . [ ص: 165 ]

وأما قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

فقال بعضهم : معنى قوله : " فإذا اطمأننتم " ، فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم فأقيموا يعني : فأتموا الصلاة التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض .

ذكر من قال ذلك :

10381 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد في قوله : " فإذا اطمأننتم " ، قال : الخروج من دار السفر إلى دار الإقامة .

10382 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " فإذا اطمأننتم " ، يقول : إذا اطمأننتم في أمصاركم ، فأتموا الصلاة .

وقال آخرون : معنى ذلك : فإذا استقررتم فأقيموا الصلاة أي : فأتموا حدودها بركوعها وسجودها .

ذكر من قال ذلك :

10383 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإذا اطمأننتم " ، قال : فإذا اطمأننتم بعد الخوف .

10384 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، قال : فإذا اطمأننتم فصلوا الصلاة ، لا تصلها راكبا ولا ماشيا ولا قاعدا . [ ص: 166 ]

10385 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، قال : أتموها .

10386 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية ، تأويل من تأوله : فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم ، أيها المؤمنون ، واطمأنت أنفسكم بالأمن فأقيموا الصلاة فأتموا حدودها المفروضة عليكم ، غير قاصريها عن شيء من حدودها .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية ، لأن الله تعالى ذكره عرف عباده المؤمنين الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الآيتين في حالين :

إحداهما : حال شدة خوف ، أذن لهم فيها بقصر الصلاة ، على ما بينت من قصر حدودها عن التمام .

والأخرى : حال غير شدة الخوف ، أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها ، على ما وصفه لهم جل ثناؤه ، من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتهم ، وحراسة بعضهم بعضا من عدوهم . وهي حالة لا قصر فيها ، لأنه يقول جل ثناؤه : لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " . فمعلوم بذلك أن قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، إنما هو : فإذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم ، فأقيموها . وتلك حالة شدة الخوف ، لأنه قد أمرهم بإقامتها في حال غير شدة الخوف بقوله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية