الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ) .

ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح ، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود - عليه السلام - وهو قول الأكثرين . وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري : هم ثمود ، والرسول صالح - عليه السلام - هلكوا بالصيحة . وفي آخر القصة : ( فأخذتهم الصيحة ) ، ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة ، وقصة قوم هود جاءت في الأعراف ، وفي هود ، وفي الشعراء ، بإثر قصة قوم نوح . وقال تعالى : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) ، والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كإخوانه وجه وأنفذ وبعث وهنا عدي بفي ، جعلت الأمة موضعا للإرسال كما قال رؤبة :


أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام



وجاء بعث كذلك في قوله : ( ويوم نبعث في كل أمة ) ، ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) ، و ( أن ) في : ( أن اعبدوا الله ) يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية ، وجاء هنا : ( وقال الملأ ) بالواو . وفي الأعراف وسورة هود في قصته بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله ، أي اجتمع قوله الذي هو حق وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف ، وكأنه جواب لسؤال مقدر ، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت . ( بلقاء الآخرة ) أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها . ( وأترفناهم ) أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم ، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين ، وكان العطف مشعرا بغلبة التكذيب والكفر ، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم ، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم ، وأن تكون جملة حالية ، أي وقد ( وأترفناهم ) أي ( وكذبوا ) في هذه الحال ، ويئول هذا المعنى إلى المعنى الأول ، أي : ( وكذبوا ) في حال الإحسان إليهم ، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي .

وقوله : ( يأكل مما تأكلون منه ) تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم ، وأن لا [ ص: 404 ] مزية له عليهم ، والظاهر أن ما موصولة في قوله : ( مما تشربون ) ، وأن العائد محذوف تقديره : ( مما تشربون ) منه ، لوجود شرائط الحذف ، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله : مررت بالذي مررت ، وحسن هذا الحذف ورجحه كون ( تشربون ) فاصلة ; ولدلالة منه عليه في قوله : ( مما تأكلون منه ) وفي التحرير ، وزعم الفراء أن معنى قوله : ( ويشرب مما تشربون ) على حذف أي : ( مما تشربون ) منه ، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة ; لأن ما إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من . انتهى . يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه ، فيكون المحذوف ضميرا متصلا وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلا أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ; ألا ترى أنه قال : ( مما تأكلون منه ) فعداه بمن التبعيضية ، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير ( مما تشربون ) منه ، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح .

وقال الزمخشري : حذف الضمير ، والمعنى من مشروبكم ، أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه ، انتهى . فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه ، وفسره بقوله : مشروبكم ; لأن الذي تشربونه هو مشروبكم .

وقال الزمخشري : ( إذا ) واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم ، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم . انتهى . وليس ( إذا ) واقعا في جزاء الشرط بل واقع بين ( إنكم ) والخبر و ( إنكم ) والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة ، ولو كانت ( إنكم ) والخبر جوابا للشرط للزمت الفاء في ( إنكم ) ، بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه ، وهو عندهم خطأ . واختلف المعربون في تخريج ( إنكم ) الثانية ، والمنقول عن سيبويه أن ( إنكم ) بدل من الأولى ، وفيها معنى التأكيد ، وخبر ( إنكم ) الأولى محذوف ; لدلالة خبر الثانية عليه تقديره ( إنكم ) تبعثون ( إذا متم ) ، وهذا الخبر المحذوف هو العامل في ( إذا ) ، وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن ( إنكم ) الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار ، وعلى هذا يكون : ( مخرجون ) خبر ( إنكم ) الأولى ، والعامل في ( إذا ) هو هذا الخبر ، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر إن الأولى . وذهب الأخفش إلى أن ( أنكم مخرجون ) مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره : يحدث إخراجكم ، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبرا لأنكم ، ويكون جواب : ( إذا ) ذلك الفعل المحذوف ، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر ( إنكم ) ويكون عاملا في ( إذا ) .

وذكر الزمخشري قول المبرد بادئا به فقال : ثنى ( إنكم ) للتوكيد ، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف ، و ( مخرجون ) خبر عن الأول ، وهذا قول المبرد . قال الزمخشري : أو جعل ( أنكم مخرجون ) مبتدأ ، و ( إذا متم ) خبرا على معنى إخراجكم إذا متم ، ثم أخبر بالجملة عن ( أنكم ) ، انتهى . وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه . قال : أو رفع ( أنكم مخرجون ) بفعل ، هو جزاء الشرط كأنه قيل : ( إذا متم ) وقع إخراجكم . انتهى . وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبرا عن : ( أنكم ) ، ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه ، وأن يكون خبر ( أنكم ) ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في : ( إذا ) ، وفى قراءة عبد الله : ( أيعدكم ) ، ( إذا متم ) بإسقاط ( أنكم ) الأولى .

وقرأ الجمهور : ( هيهات هيهات ) بفتح التاءين ، وهي لغة الحجاز . وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ، ونسبها ابن عطية ل خالد بن إلياس . وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين ، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أأبو السماك في الأول وخالفه في الثاني . وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين ، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم و أسد وعنه أيضا ، وعن خالد بن إلياس بكسرهما [ ص: 405 ] والتنوين . وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بإسكانهما ، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعبا كبيرا بالحذف والإبدال والتنوين وغيره ، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة ، فالذي أختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعا لهيهات ، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات ، وكان حقها عنده أن تكون : ( هيهات ) إلا أن ضعفها لم يقتض إظهار الياء ، قال سيبويه : هي مثل بيضات يعني في أنها جمع ، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد ، فقال : واحد هيهات هيهة ، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ، ولا تستعمل هذه الكلمة غالبا إلا مكررة ، وجاءت غير مكررة في قول جرير :


وهيهات خل بالعقيق نواصله



وقول رؤبة :


هيهات من منخرق هيهاؤه



و ( هيهات ) اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهرا أو مضمرا ، وهنا جاء التركيب ( هيهات هيهات لما توعدون ) لم يظهر الفاعل فوجب أن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم ، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد سقيا لك ، فتتعلق بمحذوف ، وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد ، كما جاءت في : ( هيت لك ) لبيان المهيت به . وقال الزجاج : البعد ( لما توعدون ) أو بعد ( لما توعدون ) ، وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب ; لأنه لم تثبت مصدرية ( هيهات ) ، وقول الزمخشري : فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح ; لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر . وقال ابن عطية : طورا تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد ، وأحيانا يكون الفاعل محذوفا ، وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود ( لما توعدون ) ، انتهى . وهذا ليس بجيد ; لأن فيه حذف الفاعل ، وفيه أنه مصدر حذف وأبقي معموله ولا يجيز البصريون شيئا من هذا . وقال ابن عطية أيضا في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل ، وخبره : ( لما توعدون ) أي البعد لوعدكم ، كما تقول : النجح لسعيك . وقال صاحب اللوامح : فأما من قال : ( هيهات ) فرفع ونون احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء ، وما بعدهما خبرهما من حروف الجر ، بمعنى البعد . ( لما توعدون ) والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة ، انتهى . وقرأ ابن أبي عبلة : ( هيهات هيهات ) ( ما توعدون ) بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات . وهي قراءة واضحة .

وقالوا ( إن هي ) هذا الضمير يفسره سياق الكلام ; لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا : ( أيعدكم أنكم ) الآية ، فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء ، فتضمن أن لا حياة إلا حياتهم . وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله إن الحياة : ( إلا حياتنا ) الدنيا ، ثم وضع : ( هي ) موضع الحياة ; لأن الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول ما شاءت ، والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا ; لأن ( إن ) الثانية دخلت على ( هي ) التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس .

( نموت ونحيا ) أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن ، انتهى ، ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلا حياتهم وجزموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية ، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث . ( وما نحن له بمؤمنين ) أي بمصدقين ، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم ( قال عما قليل ) أي عن زمن قليل ، و ( ما ) توكيد للقلة و ( قليل ) صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب . قيل : أي بعد الموت تصيرون نادمين . وقيل : ( عما قليل ) أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع [ ص: 406 ] الرجوع ، واللام في ( ليصبحن ) لام القسم ، و ( عما قليل ) متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين ، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها ; ألا ترى أنه لو كان مفعولا به لم يجز تقديمه لو قلت : لأضربن زيدا لم يجز زيدا لأضربن ، وهذا الذي قررناه من أن ( عما قليل ) يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا ، وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها ، سواء كان ظرفا أو مجرورا أو غيرهما ، فعلى قول هو لا يكون ( عما قليل ) يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره ( عما قليل ) تنصر ; لأن قبله قال : ( رب انصرني ) . وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقا . وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة ، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزا - والله أعلم - انتهى .

( فأخذتهم الصيحة ) قال الزمخشري : صيحة جبريل - عليه السلام - صاح عليهم فدمرهم . ( بالحق ) بالوجوب ; لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم ، وهو حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان ، انتهى . وعن ابن عباس ( الصيحة ) الرجفة . وقيل : هي نفس العذاب والموت . وقيل : العذاب المصطلم . قال الشاعر :


صاح الزمان بآل زيد صيحة     خروا لشنتها على الأذقان



وقال المفضل : ( بالحق ) بما لا مدفع له كقوله : " وجاءت سكرة الموت بالحق " . وانتصب بعدا بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعدا . أي هلكوا ، يقال بعد بعدا وبعدا نحو رشد رشدا ورشدا . وقال الحوفي : ( للقوم ) متعلق ببعدا . وقال الزمخشري : و ( للقوم الظالمين ) بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو ( هيت لك ) و ( لما توعدون ) ، انتهى ، فلا تتعلق ببعدا بل بمحذوف .





التالي السابق


الخدمات العلمية