الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 415 ] قوله عز وجل:

وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين

قوله تعالى: وسيق الذين اتقوا لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتقوا الشرك، لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم، وهم الذين سبق لهم أن يغفر الله لهم من أهل المشيئة، وأيضا فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمرا إلى الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية، والواو في قوله تعالى: "وفتحت" مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها، وقد قالت فرقة: هي زائدة، وجواب "إذا" هو "فتحت"، وقال الزجاج عن المبرد : جواب "إذا" محذوف، تقديره بعد قوله تعالى: "خالدين" سعدوا.

وقال الخليل: الجواب محذوف تقديره: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى: فلما أسلما وتله للجبين .

وكما قدر أيضا قول امرئ القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى



[ ص: 416 ] أي: أجزنا وانتحى. وقال قوم - أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم -: هذه واو الثمانية، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود ، فهي كالأولى.

وقوله: سلام عليكم تحية، ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم: سلام عليكم وأمنة لكم، و"طبتم" معناه: أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء.

وقوله تعالى حكاية عنهم: وأورثنا الأرض يريد أرض الجنة قاله قتادة ، وابن زيد ، والسدي ، والوراثة هنا مستعارة، لأن حقيقة الميراث أن يكون تصيير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان، وهؤلاء إنما ورثوا مواضع أهل النار أن لو كانوا مؤمنين، و"نتبوأ" معناه: نتخذ أمكنة ومساكن.

ثم وصف حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به. وقال قوم: واحد "حافين": حاف، وقالت فرقة: لا واحد لقوله: حافين لأن الواحد لا يكون حافا، إذ الحفوف الإحداق بالشيء، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب، ومنه قول الشاعر:


له لحظات عن حفافي سريره ...     إذا كرها فيها عقاب ونائل



أي: عن جانبيه. وقالت فرقة: [من] في قوله تعالى: من حول العرش زائدة

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصواب أنها لابتداء الغاية.

وقوله تعالى: يسبحون بحمد ربهم ، قالت فرقة: معناه: أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله، وقالت فرقة: تسبيحهم هو بترديد حمد الله تبارك وتعالى وتكراره. قال الثعلبي : متلذذين لا متعبدين ولا مكلفين.

[ ص: 417 ] وقوله تعالى: وقيل الحمد لله رب العالمين ختم للأمر، وقول جزم عند فصل القضاء، أي أن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت "الحمد لله رب العالمين" خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم، وقال قتادة : فتح الله أول الخلق بالحمد فقال: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وختم القيامة بالحمد في هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجعل الحمد لله رب العالمين فاتحة كتابه، فبه يبدأ كل أمر، وبه يختم، وحمد الله تبارك وتعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن، كما قال الشاعر:


وآخر شيء أنت في كل ضجعة ...     وأول شيء أنت عند هبوبي



وقد أخرج عبد بن حميد عن وهب رضي الله عنه أنه قال: "من أراد أن يعرف قضاء الله في خلقه فليقرأ سورة الزمر".

كمل تفسير سورة الزمر والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية