الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
538 حديث ثاني عشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها أمرت أن يمر عليها سعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له ، فأنكر ذلك الناس عليها ، فقالت عائشة : ما أسرع الناس ! ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد .

[ ص: 217 ]

التالي السابق


[ ص: 217 ] هكذا هو في الموطأ عند جمهور الرواة منقطعا ، ورواه حماد بن خالد الخياط ، عن مالك ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، فانفرد بذلك عن مالك .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي ، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، حدثنا محمد بن خديمة الواسطي ، حدثنا حماد بن خالد الخياط ، عن مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : ما أسرع الناس إلى الشر ! ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثني جدي أحمد بن منيع ، قال : حدثنا حماد بن خالد الخياط ، قال : حدثنا مالك ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد .

وكذلك رواه الضحاك بن عثمان ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هارون بن عبد الله ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، عن الضحاك يعني ابن عثمان ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا فليح بن سليمان ، عن صالح ، عن ابن عجلان ، ومحمد بن عبد الله بن عباد ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد .

[ ص: 218 ] قال أبو عمر :

أما قول عائشة في هذا الحديث : ما أسرع الناس ! ففيه عندهم قولان : أحدهما ما أسرع النسيان إلى الناس ، أو ما أسرع ما نسي الناس ، والقول الآخر : ما أسرع الناس إلى إنكار ما لا يعرفون ، أو إنكار ما لا يحبون ، أو إنكار ما قد نسوه ، أو جهلوه ، أو ما أسرع الناس إلى العيب ، والطعن ، ونحوه هذا ، ثم احتجت عليهم بالحجة اللازمة لهم ، إذ أنكروا عليها أمرها بأن يمر بسعد عليها ، فيصلى عليه في المسجد .

وكان سعد بن أبي وقاص هذا قد مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ، فحمل إلى المدينة على رقاب الرجال ، ودفن بالبقيع ، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة .

وكان سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد قد عهدا أن يحملا من العقيق إلى البقيع : مقبرة المدينة ، فيدفنا بها ، وذلك - والله أعلم - لفضل علموه هناك ، فإن فضل المدينة غير منكور ولا مجهول ، ولو لم يكن إلا مجاورة الصالحين والفضلاء من الشهداء وغيرهم ، وليس هذا مما اجتمع عليه العلماء ، ألا ترى أن مالكا ذكر عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه قال : ما أحب أن أدفن في البقيع ، لأن أدفن في غيره أحب إلي ، ثم بين العلة ; مخافة أن ينبش له عظام رجل صالح ، أو يجاور فاجرا ، وهذا يستوي فيه البقيع وغيره ، ولو كان له فضل عنده ، لأحبه ، والله أعلم .

وقد يستحسن الإنسان أن يدفن بموضع قرابته وإخوانه وجيرانه ، لا لفضل ولا لدرجة ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول : اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك . وهذا يحتمل [ ص: 219 ] الوجهين : مذهب سعد وسعيد ، ومذهب عروة ، والأظهر فيه تفضيل البلد ، والله أعلم .

وقد احتج قوم بهذا الحديث في إثبات عمل المدينة ، وأن العمل أولى من الحديث عندهم ; لأنهم أنكروا على عائشة ما روته لما استفاض عندهم .

واحتج آخرون بهذا الخبر في دفع الاحتجاج بالعمل بالمدينة ، وقالوا : كيف يحتج بعمل قوم تجهل السنة بين أظهرهم ، وتعجبت أم المؤمنين من نسيانهم لها ، أو جهلهم ، وإنكارهم لما قد صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنه فيها ، وصنعه الخلفاء الراشدون ، وجلة الصحابة بعده ، وقد صلي على أبي بكر وعمر في المسجد ، قالوا فكيف يصح مع هذا ادعاء عمل ؟ أو كيف يسوغ الاحتجاج به ، وكثير ما كان يصنع عندهم مثل هذا حتى يخبره الواحد بما عنده في ذلك فينصرفوا إليه ، وقالوا : ألا ترى أن عائشة أم المؤمنين لم تر إنكارهم حجة ، وإنما رأت الحجة فيما علمته من السنة .

قال أبو عمر :

القول في هذا الباب يتسع وقد أكثر فيه المخالفون ، وليس هذا موضع تلخيص حججهم ، وللقول في ذلك موضع غير هذا ، وأما اختلاف الفقهاء في الصلاة على الجنائز في المسجد ، فروى ابن القاسم ، عن مالك ، أنه قال : لا يصلى على الجنائز في المسجد ، ولا يدخل بها المسجد ، قال : وإن صلي عليها عند باب المسجد وتضايق الناس وتزاحموا ، فلا بأس أن يكون بعض الصفوف في المسجد .

وقد قال في كتاب الاعتكاف من المدونة في صلاة المعتكف على [ ص: 220 ] الجنازة في المسجد : ما يدل على أنه معروف عندهم الصلاة على الجنازة في المسجد ، قال ابن نافع : قال مالك في المعتكف : وإن انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون على الجنازة وهو في المسجد ، فإنه لا يصلي عليها ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن : إنه لا يصلى على الجنائز في المسجد ، وأجاز ذلك أبو يوسف .

وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود : لا بأس أن يصلى على الجنائز في المسجد من ضيق وغير ضيق ، على كل حال ، وهو قول عامة أهل الحديث .

واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على ابني بيضاء في المسجد ، وأن أبا بكر صلي عليه في المسجد ، وأن عمر صلي عليه في المسجد ، ومن حجة داود في ذلك : أن الله لم ينه عن ذلك ، ولا رسوله ، ولا اتفق الجميع عليه ، والأصل إباحة فعل الخير في كل موضع ، إلا موضع تقوم بالمنع من ذلك فيه حجة لا معارض لها .

وحجة من قال بقول مالك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفظ عنه أنه صلى على غير ابن بيضاء في المسجد ، وأن إنكار من أنكره على عائشة ، لا يكون إلا لأصل عندهم ; لأنهم يستحيل عليهم أن يروا رأيهم حجة عليها .

واحتجوا من الأثر بما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قالا : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن أبي ذئب ، قال حدثني [ ص: 221 ] صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلى على جنازة في المسجد ، فلا شيء له .

وحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من صلى على جنازة في المسجد ، فلا شيء له .

قال البغوي : وقد روى هذا الحديث سفيان الثوري ، عن ابن أبي ذئب ، حدثني به أحمد بن محمد القاضي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلى على جنازة في المسجد فليس له أجر .

واحتج من ذهب مذهب مالك بحديث صالح مولى التوأمة هذا ، مع ما ذكرنا من إنكار من أنكر ذلك على عائشة .

وقال الآخرون : أما رواية أبي حذيفة عن الثوري لهذا الحديث ، وقوله فيه : فليس له أجر فخطأ لا إشكال فيه ، ولم يقل أحد في هذا الحديث ما قاله أبو حذيفة .

قالوا : والصحيح في هذا الحديث ما قاله يحيى القطان ، وسائر رواة هذا الحديث ، عن ابن أبي ذئب بإسناده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك قوله : من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له .

هذا هو الصحيح في هذا الحديث ، قالوا : ومعنى قوله : لا شيء له يريد لا شيء عليه ، قالوا : وهذا صحيح معروف في لسان العرب ، قال الله عز [ ص: 222 ] وجل ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) بمعنى فعليها ، ومثله كثير .

قالوا : وصالح مولى التوأمة من أهل العلم بالحديث من لا يقبل شيء من حديثه لضعفه ، ومنهم من يقبل من حديثه ما رواه ابن أبي ذئب عنه خاصة ; لأنه سمع منه قبل الاختلاط ، ولا خلاف أنه اختلط ، فكان لا يضبط ولا يعرف ما يأتي به ، ومثل هذا ليس بحجة فيما انفرد به ، وليس يعرف هذا الحديث من غير روايته البتة ، فإن صح ، فمعناه ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا إبراهيم بن عرعرة ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : لقينا صالحا مولى التوأمة ، وهو مختلط .

قال أبو عمر :

حديث عائشة صحيح ، نقله الثقات من وجهين صحيحين ، وحديث أبي هريرة انفرد به صالح بن أبي صالح مولى التوأمة ، وليس بحجة لضعفه ، ولو صح حديثه لم يكن فيه حجة للتأويل الذي ذكرنا ، وعلى هذا التأويل لا يكون معارضا لحديث عائشة ، وهو أولى ما حملت عليه الأحاديث التي جاءت معارضة له ، ويدل على صحة ذلك : أن أبا بكر صلى عليه عمر في المسجد ، وصلى صهيب على عمر في المسجد بمحضر جلة الصحابة من غير نكير منهم ، وليس من أنكر ذلك بعدهم بحجة عليهم ، فصار بما ذكر هنا سنة يعمل بها قديما ، فلا يجوز مخالفتها ، وبالله التوفيق .

[ ص: 223 ] قال أبو عمر :

احتج بعض من لا يرى الصلاة في المسجد على الجنائز من أصحابنا بحديث سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس إلى المصلى حين صلى على النجاشي ، قال : فالخروج بالجنازة إلى الجنازة أحرى بذلك ، ولا يصلى عليها في المسجد ، قال : وإنما صلي على أبي بكر وعمر في المسجد ; لأنهما دفنا فيه ، وهذا لا يلزم إلا لمن قال : لا يصلى على الجنائز إلا في المسجد ، ولم يقله أحد ، وأما من قال : يصلى عليها في المسجد وفي غير المسجد ، فغير لازم له ما ذكر من ذكرنا قوله ، وقد مضى القول في هذا المعنى في باب ابن شهاب من هذا الكتاب ، والحمد لله ، وإن أولى الناس بإجازة الصلاة في المسجد على الجنازة من زعم أن الثوب الذي يجفف فيه الميت ويغسل طاهر يستغني عن الغسل .




الخدمات العلمية