الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ) .

لما ذكر ما كان عليه الكفار [ ص: 420 ] من ادعاء الولد والشريك له ، وكان تعالى قد أعلم نبيه أنه ينتقم منهم ، ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته ، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء ; أي : إن ترني ما تعدهم واقعا بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم ، ومعلوم أنه - عليه السلام - معصوم مما يكون سببا لجعله معهم ، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارا للعبودية وتواضعا لله ، واستغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل . وقال أبو بكر : وليتكم ولست بخيركم . قال الحسن : كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه .

وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل الجزاء ; مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع ، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد . وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني " ترئني " بالهمز بدل الياء ، وهذا كما قرئ " فإما ترئن " ، " ولترؤن " بالهمز ، وهو إبدال ضعيف ، ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته - عليه الصلاة والسلام - ، ولكن تأخيره لأجل يستوفون ، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا . فقيل : يوم بدر . وقيل : فتح مكة . وقيل : هو عذاب الآخرة .

ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق و ( التي هي أحسن ) شهادة أن لا إله إلا الله ، و ( السيئة ) الشرك . وقال الحسن : الصفح والإغضاء . وقال عطاء والضحاك : السلام إذا أفحشوا . وحكى الماوردي : ( ادفع ) بالموعظة المنكر ، والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء . و ( التي هي أحسن ) أبلغ من الحسنة ; للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل ، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن . قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف . وقيل : هي محكمة ; لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة . ( نحن أعلم بما يصفون ) يقتصي أنها آية موادعة ، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه .

ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نخسات الشياطين ، والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به ، كما يهمز الرائض الدابة لتسرع ، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه . وقال ابن زيد : همز الشيطان الجنون ، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت . وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن .

( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) ، قال الزمخشري : ( حتى ) يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم ، مستعينا بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم ، أو على قوله : ( وإنهم لكاذبون ) ، انتهى . وقال ابن عطية : ( حتى ) في هذا الموضع حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف ، والأول أبين ; لأن ما بعدها هو المعني به المقصود ذكره ، انتهى . فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر . وقال أبو البقاء : ( حتى ) غاية في معنى العطف ، والذي يظهر لي أن قبلها جملة [ ص: 421 ] محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم ( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) ، ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر :


فيا عجبا حتى كليب تسبني



أي يسبني الناس حتى كليب ، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة ، وفي الآية دل ما قبلها عليها . وقال القشيري : احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ، ثم قال : مصرون على الإنكار ( حتى إذا حضر أحدهم الموت ) تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم ، انتهى . وجمع الضمير في ( ارجعون ) إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع ; تعظيما ، كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع . وقال الشاعر :


فإن شئت حرمت النساء سواكم



وقال آخر :


ألا فارحموني يا إله محمد



وإما استغاث أولا بربه وخاطب ملائكة العذاب ، وقاله ابن جريج . والظاهر أن الضمير في ( أحدهم ) راجع إلى الكفار ، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك . وقال ابن عباس : من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة . فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلا لقوله : ( وأنفقوا مما رزقناكم ) آية سورة المنافقين . وقال الأوزاعي : هو مانع الزكاة ، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان ، فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا ، وفي الحديث : " إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة : نرجعك ؟ فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله ، وأما الكافر فيقول : " ارجعون لعلي أعمل صالحا " .

ومعنى ( فيما تركت ) : في الإيمان الذي تركته ، والمعنى لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول : لعلي أبني على أس ، يريد أؤسس أسا وأبني عليه . وقيل : ( فيما تركت ) من المال على ما فسره ابن عباس : ( كلا ) كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد . فقيل : هي من قول الله لهم . وقيل : من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ، ومعنى ( هو قائلها ) : لا يسكت عنها ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه ، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث ( ومن ورائهم ) أي الكفار ( برزخ ) حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث . وفي هذه الجملة إقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا ، وإنما الرجوع إلى الآخرة ، استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه .

وقرأ ابن عباس والحسن وابن عياض : ( في الصور ) بفتح الواو ، جمع صورة ، وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو ، وكذا ( فأحسن صوركم ) وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء ، شاذ . ( فلا أنساب ) نفي عام ، فقال ابن عباس : عند النفخة الأولى يموت الناس ، فلا يكون بينهم نسب في ذلك الوقت وهم أموات ، وهذا القول يزيل هول الحشر . وقال ابن مسعود وغيره : عند قيام الناس من القبور ، فلهول المطلع اشتغل كل امرئ بنفسه فانقطعت الوسائل وارتفع التفاخر والتعاون بالأنساب . وعن قتادة : ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف ; لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة ، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه . وقيل : ( فلا أنساب ) أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعد لهم من ثواب وعقاب ، وإنما التواصل بالأعمال .

وقرأ عبد الله " ولا يساءلون " بتشديد السين أدغم التاء في السين ; إذ أصله : ( يتساءلون ) ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله : ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) ; لأن يوم القيامة مواطن ومواقف ، ويمكن أن يكون انتفاء التساؤل عند النفخة الأولى ، وأما في الثانية فيقع التساؤل .

وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في أوائل الأعراف . وقال الزمخشري : ( في جهنم خالدون ) بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه ; لأن الصلة لا محل لها ، أو خبر بعد خبر لأولئك ، أو خبر مبتدأ محذوف ، انتهى . جعل ( في جهنم ) بدلا من ( خسروا ) ، وهذا بدل غريب ، وحقيقته أن [ ص: 422 ] يكون البدل الفعل الذي يتعلق به ( في جهنم ) أي استقروا في جهنم ، وكأنه من بدل الشيء من الشيء ، وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز ; لأن من خسر نفسه استقر في جهنم . وأجاز أبو البقاء أن يكون ( الذين ) نعتا لأولئك ، وخبر ( أولئك ) ( في جهنم ) ، والظاهر أن يكون خبرا لأولئك لا نعتا .

وخص الوجه باللفح ; لأنه أشرف ما في الإنسان ، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء ، فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح . ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه ، وفي الترمذي تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته ، قال هذا حديث حسن صحيح . وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة " كلحون " بغير ألف .

التالي السابق


الخدمات العلمية