الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: ولابن عقيل من هذا الجنس في تعظيم الشرع، وذم من يخالفه من أهل النظر والكلام، وأهل الإرادة والعبادة، كلام كثير من هذا الجنس. كما قد تكلم في ذلك طوائف من أهل العلم والدين، لكن من غلب عليه طريق النظر والكلام كان ذمه لمنحرفة العباد أكثر من ذمه لمنحرفة أهل الكلام، وهذا كثير في أهل الكلام والفقهاء، لاسيما في المعتزلة، وهؤلاء قد لا يعرفون ما في طريق أهل العبادة والتصوف من الأمور المحمودة في الشرع، ومن غلب عليه طريقة أهل [ ص: 69 ] الإرادة والعبادة، كان ذمه لمنحرفة أهل الكلام والنظر أكثر من ذمه لمنحرفة أهل التصوف. وهذا يوجد كثيرا في كلام أهل الزهد والعبادة، لا سيما المعظمين لطريق الصوفية، فمثل أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي طالب المكي، وأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، وأبي حامد الغزالي، وإن كانوا يذمون من منحرفة الصوفية ما يذمون، فذمهم لجنس أهل الكلام والبحث والنظر أعظم. ومثل أبي بكر بن فورك، وابن عقيل، وأبي بكر الطرطوشي، وأبي عبد الله المازري، وأبي الفرج بن الجوزي، وإن كانوا يذمون من بدع أهل الكلام والفلسفة ما يذمون، فذمهم لما يذمونه من بدع أهل التصوف والتأله أعظم.

وقد قال الله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [سورة الفاتحة:6-7] ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون». رواه الترمذي وصححه.

وكان طائفة من السلف يقولون: من فسد من الفقهاء ففيه شبه من [ ص: 70 ] اليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى. فمن كان فيه بدعة من أهل الكلام والنظر والفقه كالمعتزلة تجدهم يذمون النصارى أكثر مما يذمون اليهود، واليهود يقرءون كتبهم ويعظمونهم. ومن كان فيه بدعة من أهل العبادة والتصوف والزهد، تجدهم يذمون اليهود أكثر مما يذمون النصارى، وتجد النصارى يميلون إليهم، وقد يحصل من مبتدعة الطائفتين من موالاة اليهود والنصارى بحسب ما فيهم من مشابهتهم، وهذا موجود كثيرا، كما دل عليه الكتاب والسنة.

وهذه الطريقة الأولى التي يعتمد عليها من يعتمد، مثل ابن عقيل، وصدقه ابن الحسين، وغيرهما، هي التي ذكرها أبو الحسن الأشعري في "رسالته إلى أهل الثغر"، وهي التي اعتمد عليها في كتابه المشهور المسمى: "باللمع في الرد على أصحاب البدع" وهو أشهر مختصراته، وقد شرحوه شروحا كثيرة، ومن أجلها شرح القاضي أبي بكر له.

التالي السابق


الخدمات العلمية