الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1004 [ ص: 228 ] حديث رابع عشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول الله بإخوانهم : أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى ، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ؟ قال : فبكى أبو بكر ، وقال : أئنا لكائنون بعدك ؟ .

التالي السابق


هذا الحديث مرسل هكذا منقطع عند جميع الرواة للموطأ ، ولكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة ، ومعنى قوله : أشهد عليهم ، أي أشهد لهم بالإيمان الصحيح ، والسلامة من الذنوب الموبقات ، ومن التبديل ، والتغيير ، والمنافسة في الدنيا ، ونحو ذلك ، والله أعلم .

وفيه من الفقه دليل على أن شهداء أحد ومن مات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبله أفضل من الذين تخلفهم بعده ، والله أعلم ، وهذا عندي في الجملة المحتملة للتخصيص ; لأن من أصحابه من أصاب من الدنيا بعده ، وأصابت منه ، وأما الخصوص والتعيين ، فلا سبيل إليه إلا بتوقيف يجب التسليم له .

وأما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تخلفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده ، فأفضلهم أبو بكر وعمر ، على هذا جماعة علماء المسلمين إلا من شذ ، وقد قالت طائفة كثيرة من أهل العلم : إن أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر لم يستثنوا من مات قبله ممن مات بعده .

[ ص: 229 ] وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشهداء أحد : أنا أشهد لهؤلاء ، أو أنا شهيد لهؤلاء ، ونحو هذا ، فقد روي هذا اللفظ ، ومعناه من وجوه :

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، قال سفيان وثبته معمر ، عن ابن أبي الصعير ، قال : أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد ، فقال : إني قد شهدت على هؤلاء فزملوهم بكلومهم ودمائهم .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن ، قال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا البخاري ، قال : حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما ، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر ، فقال : إني فرط لكم ، وأنا شهيد عليكم ، وإني لأنظر إلى حوضي الآن ، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، وإني - والله - ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن ربان ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث بن سعد حدثني ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب ، عن جابر قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ، ثم يقول : أيهم أكثر أخذا للقرآن ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم بدمائهم ، ولم يصل عليهم .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الواحد ، قال : حدثنا سليمان بن [ ص: 230 ] سلمة ، قال : حدثنا أحمد بن خالد قال حدثني أسامة بن زيد ، قال أخبرني ابن شهاب الزهري ، عن أنس بن مالك ، قال : لم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - على شهداء أحد ، وقال : أنا الشاهد عليكم اليوم ، وكان يجمع بين الثلاثة نفر والاثنين ، ثم يسأل : أيهما أكثر قرآنا فيقدمه في اللحد ، ويكفن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحد .

قال أبو عمر :

اختلف على ابن شهاب في هذا الحديث اختلافا كثيرا ، ورواية الليث عندهم بالصواب أولى .

وأخبرنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا ابن أبي العقب ، حدثنا أبو زرعة ، حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أيوب بن بشير الأنصاري ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج تلك الخرجة ، استوى على المنبر ، فتشهد ، فلما قضى تشهده كان أول كلام تكلم به : أن استغفر للشهداء الذين قتلوا يوم أحد ، ثم قال : إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند ربه ، فاختار ما عند ربه ، ففطن بها أبو بكر الصديق أول الناس ، وعرف إنما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، فبكى أبو بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلك ، سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر ، فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصحبة من أبي بكر .




الخدمات العلمية