الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها :

أن الأمين أمر بإسقاط الدراهم والدنانير التي ضربت لأخيه بخراسان في سنة أربع وتسعين ، وسبب ذلك : أن المأمون أمر أن لا يثبت فيها اسم محمد ، فكانت لا تجوز حينا . وفيها : نهى عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم ، وأمر بالدعاء لنفسه ، ثم لابنه موسى ، وذلك في صفر من هذه السنة ، وكان موسى طفلا صغيرا ، وذلك عن رأي الفضل بن الربيع ، فبلغ ذلك المأمون ، فسمي بإمام المؤمنين ، وكوتب بذلك .

ولما عزم محمد على خلع المأمون قال له الفضل : ألا تعذر إليه [يا أمير المؤمنين ] لعله يسلم الأمر في عافية ، فتكتب إليه كتابا فتسأله الصفح عما في يديه .

فقال له إسماعيل بن صبيح : هذا تقوية إليهم ، ولكن اكتب إليه فأعلمه حبك لقربه .

فكتب إليه : إني أحب قربك لتعاونني . فكتب إليه : إن مكاني أعود على أمير المؤمنين . ثم دعا الفضل فقال : ما ترى ؟ قال : أن تمسك موضعك قال : كيف ؟ مع [ ص: 12 ] مخالفة محمد والمال والجند معه ، والملوك حولي كلهم عدو لي . قال : تصلح ما بيني وبينهم ، فلما عرف الأمين أنه لا يأتيه وجه إليه عصمة بن حماد ، وأمره بقطع الميرة عن خراسان .

وفيها : عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان ، وذلك يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الآخر على كور الجبل كلها : نهاوند ، وهمدان ، وقم ، وأصفهان ، حربها وخراجها ، وضم إليه جماعة من القواد ، وأمر له بمائتي ألف دينار ، ولولده بخمسين ألف دينار ، وأعطى الجند مالا عظيما ، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف ، وستة آلاف ثوب للخلع ، وأحضر الأمين أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة ، فصلى الجمعة ، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من حضر ، فقرأ على جماعتهم كتابا من الأمين يعلمهم رأيه فيهم ، وحقه عليهم ، وما سبق له من البيعة منفردا بها ، ولزوم ذلك لهم ، وما أحدث المأمون من التسمي بالإمام ، والدعاء إلى نفسه ، وقطع البريد ، وقطع ذكره من دار الطرز ، وأن ما أحدث من ذلك ليس له .

ثم تكلم الفضل وقال : لا حق لأحد في الخلافة ، إلا لأمير المؤمنين محمد ، ولم يجعل الله لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظا ، وأن الأمير موسى قد أمر لكم من صلب ماله ثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم يا أهل خراسان .

وفيها : شخص علي بن عيسى إلى الري لحرب المأمون ، فكان خروجه عشية الجمعة لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة ، وخرج فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر إلى معسكره في زهاء من أربعين ألفا .

ولما أراد الخروج ودع أم جعفر فقالت له : يا علي ، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي فأني على عبد الله مشفقة ، فاعرف لعبد الله حق إخوته ، ولا تبجه بالكلام ولا [ ص: 13 ] تفتشره افتشار العبيد ، وإن شتمك فاحتمله ، ثم دفعت إليه قيدا من فضة فقالت : إن صار في يدك فقيده به .

فشخص ومعه الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة ، فعرض الجند ، وعاد إلى مدينة السلام ، وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام ، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعا ، حتى نزل همدان ، فولى عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة ، وكان الأمين قد كتب إلى عصمة بن حماد يأمره بالانصراف في خاصة أصحابه ، وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال إلى علي بن عيسى ، وكتب إلى أبي دلف القاسم بن علي بالانضمام إليه فيمن معه من أصحابه ، وشخص علي بن عيسى من همدان يريد الري ، فكان يسأل عن خراسان فيقال له إن طاهرا مقيم بالري ، فيضحك فيقول وما طاهر ! ؟ هل هو إلا شوكة بين أعضائي . فلقيه طاهر في نحو أربعة آلاف ، فلما رأى طاهر جمع علي بن عيسى قال : هذا ما لا طاقة لنا به ، ولكن نجعلها خارجية نقصد القلب . فحملوا فجرى القتال ، فقتل علي بن عيسى وألقي في بئر ، وهزم عسكره وأخذ منهم سبعمائة ألف درهم .

وكتب طاهر إلى ذي الرئاستين : أطال الله بقاءك ، وكبت أعداءك ، وجعل من يشنؤك فداءك ، كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي ، وخاتمه في أصبعي ، والحمد لله رب العالمين .

فدخل على المأمون فبشره ، فأيد طاهرا بالرجال ، وسماه ذا اليمينين ، وأمر بإحضار أهل بيته ، والقواد ، ووجوه الناس ، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة ، وأعلن يومئذ بخلع الأمين .

ثم ورد برأس علي بن عيسى يوم الثلاثاء ، فطيف به خراسان ، وبلغ الخبر إلى الأمين ، فندم على نكثه وغدره ، ومشى القواد بعضهم إلى بعض ، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال ، فقالوا : إن عليا قد قتل ، ولا شك أن محمدا يحتاج إلى الرجال ، فاطلبوا الجوائز والأرزاق ، فلعلنا نصيب في هذه الحالة ما يصلحنا ، فأصبحوا يكبرون ويطلبون الأرزاق .

وبلغ الخبر عبد الله بن خازم ، فركب إليهم في أصحابه ، فتراموا بالنشاب [ ص: 14 ] والحجارة ، وسمع محمد التكبير والضجيج ، فقال : ما الخبر ؟ فأعلموه ، فقال : مروا ابن خازم فلينصرف عنهم .

ثم أمر لهم بأرزاق أربعة شهور ، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين ، وأمر للقواد بالصلات ، وبعث إلى نوفل خادم المأمون ، فأخذ منه ستة آلاف ألف درهم التي كان الرشيد وصل المأمون بها ، وقبض ضياعه وغلاته وأمواله ، وولى عليها عمالا من قبله ، ووجه عبد الرحمن بن جبلة من الأنبار بالقوة والعدة في عشرين ألفا ، فنزل همدان لحرب طاهر ، وولاه ما بين حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان ، فمر حتى نزل همدان ، وضبط طرقها ، وحصر سورها ، وسد ثلمها واستعد للقاء طاهر . ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم هزمهم طاهر فحصرهم في مدينة همدان ، وقطع عنهم الميرة ، فطلبوا الأمان ، فأمنهم ، ثم قتل عبد الرحمن بن جبلة .

وكان السبب أنه لما أمنه طاهر أقام يريه أنه مسالم له ، راض بعهده ، ثم اغتره وأصحابه ، فهجم بأصحابه عليهم ، فوضعوا فيهم السيف ، فثاروا إليهم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم أصحاب عبد الرحمن ، وترجل هو وجماعة من أصحابه فقاتل حتى قتل .

وفي هذه السنة : طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبل .

وفيها : ظهر السفياني بالشام ، واسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ، فدعا لنفسه ، وذلك في ذي الحجة . وطرد عنها سليمان بن أبي جعفر بعد أن حصره بدمشق - وكان عامل محمد عليها - ثم أفلت منه بعد اليأس ، فوجه إليه محمد بن الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان ، فلم يصل إليه ، وأقام بالرقة .

وحج بالناس في هذه السنة داود بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وهو كان العامل على مكة والمدينة من قبل محمد ، وكان على [ ص: 15 ] الكوفة العباس بن موسى الهادي ، وعلى البصرة منصور بن المهدي ، وبخراسان المأمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية