الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها :

أن القاسم بن الرشيد ، ومنصور بن المهدي خرجا من العراق ، فلحقا بالمأمون ، فوجه المأمون القاسم إلى جرجان .

وفيها : حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمد بن هارون ببغداد .

وصفة ما جرى : أن زهير بن المسيب نزل قصرا بكلواذى ، ونصب المجانيق والعرادات ، وحفر الخنادق ، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر ، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر ، ويعشر أموال التجار ، وبلغ من الناس كل مبلغ ، فشكوا ذلك إلى طاهر ، وبلغ هرثمة ذلك فأمده بالجنود ، وسكت الناس ، ونزل هرثمة نهر بين ، وجعل عليه حائطا وخندقا وأعد المجانيق والعرادات ، وأنزل عبد الله بن الوضاح الشماسية ، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار ، فانزعج لذلك الأمين ، ونفد ما كان عنده ، فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة ، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم ، وكان فيمن استأمن إلى طاهر : سعيد بن مالك بن قادم مولى ناجية ، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك ، وشاطئ دجلة ، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشام واحدا بعد واحد ، وكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد ، وأرسل طاهر إلى الأرباض من [ ص: 37 ] طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها ، فكل ناحية أجابه أهلها خندق عليهم ، ووضع مسالحه ، ومن أبى قاتله وأحرق منزله ، فذلت الأجناد وتواكلت عن القتال ، وبقي أهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين ، وكان حاتم بن الصقر قد أباحهم النهب .

وخرج من أصحاب طاهر رجل من أصحاب النجدة والبأس ، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم ، فقال لأصحابه : ما يقابلنا إلا من أرى استهانة بهم . فقالوا : نعم ، هؤلاء هم آلافة . فقال : أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء ، ولا عدة لهم . فأوتر قوسه وتقدم ، فقصده أحدهم وفي يده بارية مقيرة ، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة ، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار ، فيأخذه من باريته فيجعله في موضع من البارية قد هيأه لذلك كالجعبة ويصيح : دانق ، أي هذا ثمن النشابة . فأنفذ الخراساني سهامه ، ثم حمل على العيار ليضربه بالسيف ، فأخرج العيار حجرا من مخلاته فجعله في مقلاع ورماه ، فما أخطأ عينه ، ثم ثناه بآخر فكاد يصرعه عن فرسه ، فكر راجعا وهو يقول : ليس هؤلاء بإنس ، فحدث طاهرا بهذا فضحك وأعفاه من القتال وقال في هذا بعض شعراء بغداد :


خرجت هذه الحروب رجالا لا لقحطانها ولا لنزار     معشرا في جواشن الصوف يغدون
إلى الحرب كالأسود الضواري     وعليهم مغافر الخوص تجزيهم
عن البيض والتراس البواري     ليس يدرون ما الفرار إذا الأبطال
عاذوا من القنا بالفرار     واحد منهم يشد على
ألفين عريان ما له من إزار     ويقول الفتى إذ طعن الطعنة
: خذها من الفتى العيار     كم شريف قد أخملته وكم قد
رفعت من مقامر طرار

ولم يزل طاهر يصاير محمدا وجنده حتى مل أهل بغداد ، فاستأمر إلى طاهر خلق [ ص: 38 ] من أصحاب محمد وقواده ، فلما استأمن محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد استأمن محمد .

وفي هذه السنة : منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا من كان في عسكره منهم ووضع الرصد عليهم بسبب ذلك .

وكان السبب في فعله هذا : أن أصحابه نيل منهم بالجراح ، فأمر بالهدم والإحراق ، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشام وباب الكوفة ، إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة ، وجعل يحوي كل ناحية ويخندق عليها ، فلما رأى أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق أمر بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع ، فغلت الأسعار ، واشتد الحصار وفرح من خرج ، وتأسف من أقام .

ثم كانت بعد وقعات منها : وقعة بالكناسة ، باشرها طاهر بنفسه ، قتل فيها خلق كثير من أصحاب محمد .

ومنها وقعة بدرب الحجارة ، كانت على أصحاب طاهر ، قتل فيها خلق كثير .

ومنها : وقعة بباب الشماسية ، أسر فيها هرثمة ، وكان هرثمة ينزل نهر بين ، وعليه حائط وخندق ، وقد أعد المجانيق والعرادات ، وقد أنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية ، وكان يخرج أحيانا فيقف بباب خراسان ساعة ، ثم ينصرف ، وكان حاتم بن الصقر من أصحاب محمد ، وكان قد واعد أصحابه العراة العيارين أن يوافوا عبد الله بن الوضاح ليلا ، فمضوا إليه مفاجأة ، وأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه ، فانهزم ، وبلغ هرثمة [الخبر ] ، فأقبل لنصرته ، فأسر هرثمة ، فضرب بعض أصحابه يد من أسره فقطعها ، فتخلص ، فانهزم . وبلغ خبره أهل عسكره ، فخرجوا هاربين نحو حلوان ، ثم قام بنصرة طاهر ، فرجع إلى مكانه ، وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى [ ص: 39 ] المدائن في السفن بعياله وولده ، فأقام بها ، ولم يحضر القتال . وقيل : بل كاتبه طاهر وحذره قبض ضياعه واستئصاله ، فحذره من الفتنة وسلم .

وتضايق على محمد أمره ، ونفد ما كان عنده ، وطلب الناس الأرزاق ، فقال :

وددت أن الله قتل الفريقين جميعا ، هؤلاء يريدون مالي وأولئك يريدون نفسي . وضعف أمره ، وأيقن بالهلاك .

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك .

وكان عامل مكة في هذه السنة داود بن عيسى .

التالي السابق


الخدمات العلمية