الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير

[ ص: 467 ] نزلت إلى قوله : ( إلا البلاغ المبين ) في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر ، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت .

ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذم قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم . ( ثم يتولى فريق منهم ) عن الإيمان . ( بعد ذلك ) أي بعد قولهم : ( آمنا ) . ( وما أولئك ) إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان ، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيمانا إنما كان ادعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب . وأفرد الضمير في ( ليحكم بينهم ) ، وقد تقدم قوله : ( إلى الله ورسوله ) ; لأن حكم الرسول هو عن الله . قال الزمخشري : كقولك أعجبني زيد وكرمه ، يريد كرم زيد ، ومنه :


ومنهل من الفلا في أوسطه غلسته قبل القطا وفرطه



أراد قبل فرط القطا ، انتهى . أي قبل تقدم القطا إليه . وقرأ أبو جعفر : ( ليحكم ) في الموضعين مبنيا للمفعول ، و ( إذا ) الثانية للفجاءة . جواب ( إذا ) الأولى الشرطية ، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافا للأكثرين من النحاة ; لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . وقد أحكم ذلك في علم النحو . والظاهر أن ( إليه ) متعلق بيأتوا . والضمير في : ( إليه ) عائد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأجاز الزمخشري أن يتعلق : ( إليه ) بمذعنين ، قال : لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة ، وهذا أحسن ; لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص . وقد رددنا عليه ذلك وفيما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل ، وهو مما يضعف ، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المر والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق ; لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك .

( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون ) ، ( أم ) هنا منقطعة ، والتقدير : بل ارتابوا بل أيخافون ، وهو استفهام توقيف وتوبيخ ; ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم ، أو مما يمدح به ، وهو بليغ جدا فمن المبالغة في الذم . قول الشاعر :


ألست من القوم الذين تعاهدوا     على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر



ومن المبالغة في المدح . قول جرير :


ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح



وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته ، فقال : ( أفي قلوبهم مرض ) أي نفاق وعدم إخلاص . ( أم ارتابوا ) أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين . ( أم يخافون ) أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة ، فيكون ذلك ظلما لهم . ثم استدرك ببل إنهم : ( هم الظالمون ) .

وقرأ [ ص: 468 ] علي وابن أبي إسحاق والحسن ( إنما كان قول ) بالرفع ، والجمهور بالنصب . قال الزمخشري : والنصب أقوى ; لأن أولى الاسمين بكونه اسما لكان أوغلهما في التعريف ، و ( أن يقولوا ) أوغل ; لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين . وكان هذا من قبيل ( كان ) في قوله : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) ( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ) ، انتهى . ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر ، من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار .

وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس ( ليحكم بينهم ) ، مبنيا للمفعول ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر ، أي ( ليحكم ) هو أي الحكم ، والمعنى ليفعل الحكم ( بينهم ) ومثله قولهم : جمع بينهما وألف بينهما ، وقوله تعالى : ( وحيل بينهم ) . قال الزمخشري : ومثله ( لقد تقطع بينكم ) فيمن قرأ ( بينكم ) منصوبا أي وقع التقطع بينكم ، انتهى . ولا يتعين ما قاله في الآية ; إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على شيء قبله ، وتقدم الكلام في ذلك في موضعه .

( أن يقولوا سمعنا ) أي قول الرسول ، ( وأطعنا ) أي أمره . وقرئ : ( ويتقه ) بالإشباع والاختلاس والإسكان . وقرئ : ( ويتقه ) بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع ، أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل ، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه ; لأنه تقه كعلم ، وكما قال السالم :


قالت سليمى اشتر لنا سويقا



يريد اشتر لنا . ( ومن يطع الله ) في فرائضه ، ( ورسوله ) في سننه ، و ( يخشى الله ) على ما مضى من ذنوبه ، ( ويتقه ) فيما يستقبل . وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه .

ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقسموا إلى آخره أي : ( ليخرجن ) عن ديارهم وأموالهم ونسائهم ، و ( لئن أمرتهم ) بالجهاد ( ليخرجن ) إليه ، وتقدم الكلام في ( جهد أيمانهم ) في الأنعام . ونهاهم تعالى عن قسمهم ; لعلمه تعالى أنه ليس حقا . ( طاعة معروفة ) أي : معلومة لا شك فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين المطابق باطنهم لظاهرهم ، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ، أو طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة ; قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : يحتمل معاني .

أحدها : النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة ، فكأنه يقول : لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه .

والثاني : لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم ، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم .

والثالث : لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم ، هو المطلوب منكم .

والرابع : لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة ، وجهاد عدوه مهيع لائح ، انتهى .

و ( طاعة ) مبتدأ ، و ( معروفة ) صفة ، والخبر محذوف ، أي أمثل وأولى ، أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب ( طاعة معروفة ) . وقال أبو البقاء : ولو قرئ بالنصب لكان جائزا في العربية ، وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة ، انتهى . وقدراه بالنصب زيد بن علي واليزيدي ، وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن ( طاعة معروفة ) ضعيف ; لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل ، إلا إذا كان ثم مشعر به ، نحو ( رجال ) بعد ( يسبح ) مبنيا للمفعول ، أي يسبحه رجال ، أو يجاب به نفي نحو : بلى زيد لمن قال : ما جاء أحد . أو استفهام نحو قوله :


ألا هل أتى أم الحويرث مرسل     بلى خالد إن لم تعقه العوائق



أي أتاها خالد . ( إن الله خبير بما تعملون ) أي مطلع على سرائركم ففاضحكم . والتفت من الغيبة إلى الخطاب ; لأنه أبلغ في تبكيتهم .

ولما بكتهم بأنه مطلع على سرائرهم تلطف بهم ; فأمرهم بطاعة الله والرسول ، وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم . ( فإن تولوا ) أي : فإن تتولوا . ( فإنما عليه ) ، أي : على الرسول ( ما حمل ) وهو التبليغ [ ص: 469 ] ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم . ( وعليكم ما حملتم ) وهو السمع والطاعة واتباع الحق . ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته ، ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) ، تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة .

روي أن بعض الصحابة شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف ، وأنهم لا يضعون أسلحتهم ، فنزل ( وعد الله الذين آمنوا منكم ) . وروي أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال بعضهم : ما أتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة " . قال ابن عباس : وهذا الوعد وعده الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل . والخطاب في ( منكم ) للرسول وأتباعه ، و ( من ) للبيان ، أي : الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء . وقوله : ( في الأرض ) ، هي البلاد التي تجاورهم ، وهي جزيرة العرب ، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا . وفي الصحيح : " زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " . قال بعض العلماء : ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال . ( قلت ) : ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك ، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند .

( كما استخلف الذين من قبلهم ) أي بني إسرائيل ، حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة . وقيل : هو ما كان في زمان داود وسليمان - عليهما السلام - وكان الغالب على الأرض المؤمنون . وقرئ : ( كما استخلف ) مبنيا للمفعول . واللام في ( ليستخلفنهم ) جواب قسم محذوف ، أي : وأقسم ( ليستخلفنهم ) أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم ، فجووب بما يجاوب به القسم . وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول ( وعد ) محذوفا ، تقديره استخلافكم وتمكين دينكم . ودل عليه جواب القسم المحذوف . وقال الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ; لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات . وقال : " الخلافة بعدي ثلاثون " انتهى . ويندرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش ، كعمر بن عبد العزيز من الأمويين ، والمهتدين بالله في العباسيين .

( وليمكنن لهم دينهم ) أي : يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله . و ( الذي ارتضى لهم ) صفة مدح جليلة ، وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى ، مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم ، من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية . وقرأ الجمهور : ( وليبدلنهم ) بالتشديد ، وابن كثير وأبو بكر ، والحسن وابن محيصن بالتخفيف . وقال أبو العالية : لما أظهر الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - على جزيرة العرب ، وضعوا السلاح وآمنوا ، ثم قبض الله نبيه - عليه السلام - فكانوا آمنين ، كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان ، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم .

( يعبدونني ) الظاهر أنه مستأنف ، فلا موضع له من الإعراب ، كأنه قيل : ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال : ( يعبدونني ) ; قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : ( يعبدونني ) فعل مستأنف أي : هم ( يعبدونني ) ، ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده ، وقاله الحوفي ، قال : ويجوز أن يكون مستأنفا على طريق الثناء عليهم ، أي : هم ( يعبدونني ) . وقال الزمخشري : وإن جعلته حالا عن وعدهم ، أي : وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب ، انتهى . وقال الحوفي قبله . وقال أبو البقاء : ( يعبدونني ) حال من ( ليستخلفنهم ) ، و ( ليبدلنهم ) ( لا يشركون ) بدل من ( يعبدونني ) أو حال [ ص: 470 ] من الفاعل في ( يعبدونني ) موحدين ، انتهى . والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان ، وهو ظاهر قول حذيفة ، قال : كان النفاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان . قال ابن عطية : يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة . قيل : ظهر في قتلة عثمان .

وقال الزمخشري : ( ومن كفر ) يريد كفران النعمة ، كقوله : ( فكفرت بأنعم الله ) ، ( فأولئك هم الفاسقون ) ، أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة . والظاهر أن قوله : ( وأقيموا ) التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ويحسنه الخطاب في ( منكم ) . وقال الزمخشري : ( وأقيموا الصلاة ) معطوف على ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ، وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال ; لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، وكررت طاعة الرسول توكيدا لوجوبها ، انتهى .

وقرأ الجمهور ( لا تحسبن ) بتاء الخطاب ، والتقدير ( لا تحسبن ) أيها المخاطب ، ولا يندرج فيه الرسول ، وقالوا : هو خطاب للرسول ، وليس بجيد ; لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه فيه - عليه السلام - . وقرأ حمزة وابن عامر " لا يحسبن " بالياء للغيبة ، والتقدير لا يحسبن حاسب ، والرسول لا يندرج في حاسب ، وقالوا : يكون ضمير الفاعل للرسول ; لتقدم ذكره في ( وأطيعوا الرسول ) ، قاله أبو علي ، والزمخشري ، وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء . وقال النحاس : ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن ; لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن ، وممن قال هذا أبو حاتم ، انتهى . وقال الفراء : هو ضعيف ، وأجازه على حذف المفعول الثاني ، وهو قول البصريين ، تقديره أنفسهم . و ( معجزين ) المفعول الثاني .

وقال علي بن سليمان : ( الذين كفروا ) في موضع نصب ، قال : ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر ( الذين كفروا معجزين في الأرض ) . وقال الكوفيون : ( معجزين ) المفعول الأول . و ( في الأرض ) الثاني ، قيل : وهو خطأ ، وذلك لأن ظاهر ( في الأرض ) تعلقه بمعجزين ، فلا يكون مفعولا ثانيا . وخرج الزمخشري ذلك متبعا قول الكوفيين . فقال ( معجزين في الأرض ) هما المفعولان ، والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد ، انتهى . وقال أيضا : يكون الأصل : لا يحسبنهم ( الذين كفروا معجزين ) ، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث ، انتهى . وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله : ( لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) ، في قراءة من قرأ بياء الغيبة ، وجعل الفاعل ( الذين يفرحون ) ، وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ، فلا يتقدر لا يحسبنهم ; إذ لا يجوز ظنه زيد قائما على تقدير رفع زيد بظنه .

( ومأواهم النار ) قال الزمخشري : عطف على ( لا تحسبن ) ، كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ( ومأواهم النار ) ، والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم ، انتهى . وقال صاحب النظم : لا يحتمل أن يكون ( ومأواهم ) متصلا بقوله : ( لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ) بل هم مقهورون ( ومأواهم النار ) انتهى .

واستبعد العطف من حيث إن ( لا تحسبن ) نهي ، ( ومأواهم النار ) جملة خبرية ، فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي ; لتباينهما ، وهذا مذهب قوم . ولما أحس الزمخشري بهذا قال : كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ، فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة ، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضا على بعض وإن لم تتحد في النوعية ، وهو [ ص: 471 ] مذهب سيبويه .

التالي السابق


الخدمات العلمية