الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله لا يظلم الناس إشارة إلى أن ما حكي عنهم من عدم اهتدائهم إلى طريق الحق وتعطل مشاعرهم من الإدراك ليس لأمر مستند إلى الله عز وجل من خلقهم مؤفي المشاعر ونحو ذلك، بل إنما هو من قبلهم، أي: لا ينقصهم شيئا مما نيط به مصالحهم الدينية والدنيوية وكمالاتهم الأولوية والأخروية من مبادئ إدراكاتهم وأسباب علومهم من المشاعر الظاهرة والباطنة، والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب، بل يوفيهم ذلك من غير إخلال بشيء أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الناس - وقرئ بالتخفيف، ورفع الناس - وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة تعيين وتقرير، أي: لكنهم بعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له، وإعراضهم عن قبول دعوة الحق وتكذيبهم للرسل والكتب أنفسهم يظلمون أي: ينقصون ما ينقصون مما يخلون به من مبادئ كمالهم وذرائع اهتدائهم، وإنما لم يذكر لما أن مرمى الغرض إنما هو قصر الظلم على أنفسهم لا بيان ما يتعلق به الظلم، والتعبير عن فعلهم بالنقص - مع كونه تفويتا بالكلية وإبطالا بالمرة - لمراعاة جانب قرينته، وقوله عز وجل: "أنفسهم" إما تأكيد للناس فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين في قصر الظالمية عليهم، وإما مفعول لـ(يظلمون) حسبما وقع في سائر المواقع، وتقديمه عليه لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر، فيكون كما في قوله تعالى: "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم" من غير قصد للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول، وأما على رأي من يراه موجبا له، فلعل إيثار قصرها دون قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بيان بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم؛ لما أن أقبح الأمرين عند اتحاد الفاعل والمفعول، وأشدهما إنكارا عند العقل ونفرة لدى الطبع، وأوجبهما حذرا منه عند كل أحد هو المظلومية لا الظالمية، على أن قصر الأولى عليهم مستلزم لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم؛ ضرورة أنه إذا لم يظلم أحد من الناس إلا نفسه يلزم أن لا يظلمه إلا نفسه، إذ لو ظلمه غيره يلزم كون ذلك الغير ظالما لغير نفسه، والمفروض أن لا يظلم أحد إلا نفسه فاكتفي بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة، وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا، فإن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد - بحسب المقام - استمرار النفي لا نفي الاستمرار، ألا يرى أن قولك: (ما زيدا ضربت) يدل على اختصاص النفي لا على نفي الاختصاص، ومساق الآية الكريمة لإلزام الحجة، ويجوز أن يكون للوعيد، فالمضارع المنفي للاستقبال والمثبت للاستمرار، والمعنى أن الله لا يظلمهم بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم، ولكنهم أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا، فإن مباشرتهم [ ص: 150 ] المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم، وعلى الوجهين فالآية الكريمة تذييل لما سبق.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية